غسان سعودطوال مرحلة الوصاية السوريّة المباشرة، كان الرئيس نبيه بري هو السياسي الشيعي الأقوى، وإلى جانبه كل من الرئيس رفيق الحريري ممثّلاً الطائفة السنّية والنائب وليد جنبلاط ممثّلاً الطائفة الدرزيّة. أما رجل المسيحيين، بالنسبة إلى السوريين وعلى مستوى الوطن، فكان دولة الرئيس (قرابة عشر سنين) النائب ميشال المر. فبعد تعيينه وزيراً للإسكان والتعاونيات ثم وزيراً للاتصالات في عهد الرئيس إلياس سركيس (1979 و1980)، نصّبه السوريون في عهد الرئيس إلياس الهراوي نائباً لرئيس مجلس الوزراء وزيراً للدفاع (بين عامي 1990 و1992)، ثم وزيراً للاتصالات شهراً ونصف الشهر، فنائباً لرئيس مجلس الوزراء (من 1992 إلى 2000) ووزيراً للداخلية (من 1994 حتى 2000). ليكون بذلك الثابت الوحيد وسط المتغيّرين، والقطب الذي لا غنى للسوريين عنه في التعامل مع أدق التفاصيل في جبل لبنان، والقوة التي يعلم المسيحيون أن كلمتها لا تصبح اثنتين وجبروتها لا يُستفز. وهو رجل الخدمات القريب جداً من الشعب، الذي يعرف كيف تُحمى المواقف السياسيّة، وتستقر الزعامة، وتؤمن الاستمراريّة. لكن مع مطلع الألفين، بدأ يتقلص نفوذ سيِّد المتن، بتأثير من السوريين وبمغامرات أهل منزله.
يقول أحد أصدقاء المر أن السوريين كانوا سبّاقين في الإساءة إلى رجلهم المسيحي، فحاولوا تلميع صورتهم عبر إبعاده إلى الصفوف الخلفيّة. وهم، يقول الصديق، أبدلوه بإلياس دون استشارته. ثم تراكمت الأخطاء بحق أقدم نواب المتن، فلم تؤخذ توجيهاته في شأن طريقة التعامل مع لقاء قرنة شهوان ودور البطريرك وإدارة الرئيس لحود للصراع في الاعتبار، وترك وحيداً يواجه مصيره عشية التحالف الرباعي.
استولى على المر، وفق الصديق، شعور بأن السوريين غير شفافين في التعامل معه، وسط تحولات كبيرة كانت تشهدها القيادة السوريّة وفريق عملها في لبنان بعد وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد. وفي اعتقاد السوريين أن فريقاً شاباً من أبناء الجيل السابق كفيل تجديد العلاقات اللبنانيّة ــــ السوريّة، لكنهم أخطأوا، وخصوصاً حيث الزعامة والحضور الشعبي لا يورّثان. هنا يدخل أحد أقرباء المر على الحديث شارحاً أن ابن بتغرين المدلّل شكل تحدياً للوالد المحنك الذي شاهد إمبراطورية شعبيّة وسياسيّة، بناها بعرق جبينه، تنهار أمامه بعدما ورّط الابن أباه بما لا تحمد عقباه. ويعدد الرجلان أخطاء الابن، التي كان المر يركض من مكان إلى آخر لمسحها والحدِّ من الخسائر. أوّلها، حوادث 5 و7 و9 آب التي كان إلياس المسؤول المباشر والوحيد عنها باعتباره وزيراً للداخليّة ونائباً لرئيس الحكومة الذي كان خارج لبنان. وبحسب الصديق، فإن أبو إلياس كان قادراً على «ضبضبة» العونيّين دون أن يدري أحد بوجودهم. ولاحقاً كان المر يخوض في انتخابات المتن الفرعيّة عام 2002 معركة ظاهرها ضد غبريال المر وباطنها ضد محاصرة إلياس لنفوذه في وزارة الداخليّة. وكانت النتيجة صفعة مدوية لزعيم المتن في قلب إمارته تلقّاها هو بالنيابة عن السوريين الذين، بحسب الصديق، فهموا بعد تلك الانتخابات أن الابن ليس من طينة أبيه، وأنه لن يكون رجلهم في لبنان، لكن نسج الوزير الشاب علاقات مميزة بلحود (أساسها التصدي للحريري صديق والده) وبجميل السيِّد وبالأميركيين، جعل التخلّي عنه أمراً مربكاً. ولم تنته مصائب الأب هنا، يقول المرجع المتني، مؤكداً أن أبو إلياس لم يكن مطّلعاً على نيّة إلياس الانشقاق عمّن وزّره. وقد استمع بأسف إلى ابنه يشهد، بناءً على تعليمات الوزير مروان حمادة (كما قال ميشال المر في حديثه إلى ملحق «نهار الشباب»)، ضد معارفه وربما أصدقائه من الضباط السوريين. ويبدي الصديق ثقته بأن تبشير أي وزير بانتصار الجيش في معركة قبل أسبوعين من الانتصار الفعلي، كان سيدفع بميشال المر، لو كان مشاركاً في الحكومة، إلى الضغط على هذا الوزير للاستقالة أو على الأقل إسماعه كلاماً من العيار الثقيل. لكنه طبعاً آثر الصمت، بالعاً الموسى. وأتت لاحقاً حوادث مار مخايل ثم وضع أسرار شبكة حزب الله للاتصالات في يد الإعلام لتزيد من إحراج أبو الياس أمام أحد أعز أصدقائه وهو الرئيس نبيه بري. فيما كان بري وقيادة حزب الله يصرّان على التغاضي عن دور إلياس في هاتين الحادثتين وغيرهما.
أما المشكلتان الأبرز بين الابن وأبيه واللتان تنعكسان على وضع المر الانتخابي اليوم، فهما، أوّلاً، حسم إلياس لموقعه السياسي في جبهة يكاد يستحيل على ميشال دخولها أو تبادل الأصوات معها. وثانياً، افتقاد إلياس حسّ التفاعل مع المواطنين، وهو حسّ تقوم عليه زعامة المر. يهز الصديق المسن رأسه مردداً أن خدمات الابن لم تصل خلال ثماني سنوات من شغر حقائب خدماتيّة إلى عشرة في المئة من خدمات الأب. ناهيك بأنه لم يسأل يوماً عن التجمعات العائلية والجمعيات المناطقيّة التي أنشأها الأب إلا لتخريبها. كما لم يهتم بالناس الذين اعتادوا أن تكون دارة المر الأب مفتوحة لهم حتى ساعات الفجر الأولى، يستقبلهم ويعمل بجد وفاعلية لحلِّ مشاكلهم.
هذا المر، الزعيم الأسطورة، مهدد بالغرق، وفق مجموعة من الأصدقاء تأسف على مصير كهذا، وتتمسك بالرهان على مفاجأة يخبّئها أبو إلياس كعادته حتى اللحظة المناسبة، ليعود رقماً لا يسهل تجاوزه.