strong>لا يسع من يتنقّل بين الريف والمدينة إلا ملاحظة انحسار ظاهرة «الأوتوستوب» في الأخيرة. أسباب كثيرة تقف خلف هذا التراجع أبرزها الأوضاع الأمنية ثم الاجتماعية. فهل يعيد ارتفاع كلفة النقل إحياء هذه الظاهرة؟ وكيف تتعزّز ثقة الناس بـ «فاعلي الخير؟»

أحمد محسن
يرى كثيرون أن لبنان اليوم يختلف تماماً عن لبنان ما قبل الحرب. لبنان تغّير كثيراً بعدما سحقت الحروب جثته الديموغرافية وبات التوّزع الديموغرافي للبنانيين يتحّكم في ظاهرة «الأوتوستوب»، فتسيطر «ذهنية التقسيمات» على ردّ فعل المواطنين حتى لو كانوا يرفضونها في أدبياتهم الاجتماعية. بعدما تلّونت أغلبية المناطق بلون واحد، اليوم باتت تترتّب على صعود المواطن مع «غرباء» نتائج قد لا تُحمد عقباها، لذا يفضّل البعض تحمّل الكلفة المرتفعة لوسائل النقل.

تأزم الأوضاع الديمو ــ أمنية

لا يزال اللجوء إلى «الأوتوستوب» أمراً طبيعياً في المناطق الريفية، رغم تقّلص الظاهرة قليلاً، لأسباب تعود إلى ازدياد عدد السيارات. «لكن الأمر ينطبق على القرى ذات الطيف الواحد فقط» كما يقول راغب (24 عاماً) أحد سكان قرية معروب الجنوبية. راغب يعمل في مدينة صور البعيدة نسبياً عن محل إقامته، ويلجأ في أوقات كثيرة إلى «الاستعانة» ببعض المتوجهين جنوباً، «وأحياناً يكونون من الإناث، ومحجبات أو ملتزمات دينياً أيضاً»، لكنه لم يشعر يوماً بسوء ما في هذه الظاهرة، فـ«أهل القرى يحتفظون بجانب من الثقة بعضهم ببعض حتى اليوم».
يوفّر راغب بعضاً من تكاليف النقل كما يتعرّف إلى أناس جدد، ويساعده على ذلك الطابع السياسي الذي يطغى على المنطقة على حدّ قوله، «مجّرد رؤية علم لـ«حزب الله» أو «حركة أمل» على واجهة سيارة يريحني كثيراً». لا يرى راغب أن قلقه ناتج من حسّ طائفي إنما «هذا هو وضع البلد للأسف». ويؤكد أنه ما كان ليفعل الأمر نفسه في بيروت، وخصوصاً بعد الأحداث الأخيرة التي يشاهدها على شاشات التلفاز، حيث يتعرض بعض الشبّان للضرب استناداً إلى طائفتهم.
من هنا يصف جمال (27 عاماً) الصعود مع غرباء بالجنون في مثل هذه الظروف «حتى لو كان السائق امرأة». برأيه، تحصل المشاكل مع أناس يستقلون سياراتهم الخاصة، «فكيف إذا ساءت الأمور وكنت بصحبة سائق لا تعرفه». منذ يومين صعد فضل (وهو صديق مقّرب لجمال) في سيارة جيب سوداء مع 3 شبان عرّفوا عن أنفسهم بأنهم «تحريون»، فاقتيد إلى جونية وتعرّض للضرب والطعن بالسكاكين. أما خالد (25 عاماً) أحد سكان محلة فردان، الذي يرى أنّ «الذهاب إلى الضاحية ضرب من ضروب الغباء في الأساس»، فيؤكد أنه «حتى داخل بيروت لا أفعلها يوماً بسبب تأزّم الأوضاع السياسية»، وقد بقي حديثه عن الضاحية غير مفهوم، بما أن التأزّم يطال جميع المدن اللبنانية كما يرّجح برأيه الشخصي.
الأهواء السياسية فعلت ما هو أسوأ من ذلك. هذا ما يقوله رجل ستيني عاش الحقبة الهادئة في بيروت سابقاً، فهو يذكر أن التحاقه بالجيش في مطلع السبعينيات كان يساعده على حيازة احترام الشعب، وكان يشعر باللهفة في عيونهم لمساعدتهم، لكن «حتى بدلة الجيش تتعرض اليوم للمساءلة حول المذهب والانتماء السياسي إن وُجد، فكان يصعد معهم في ذلك الوقت من دون أي شعور بالحرج أو القلق، لكن اليوم تبّدلت الأمور».
باسم (23 عاماً) لا يوافق ويرى أن تجربته مختلفة. هو أتمّ خدمته العسكرية في «فوج المغاوير» خلال «أسوأ فترة عاشتها البلاد»، قاصداً بذلك الفترة التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري مباشرةً. «كنت أقف إلى جانب كنيسة مار مخايل وكان كثيرون يوصلونني إلى مناطق في الشرقية»، مضيفاً إن إشارة «المغاوير» على بدلته العسكرية «أضافت رهبة ما آنذاك»، لأنه كان يسمع مديح السائقين، الذين صعد معهم، للجيش دوماً. الدليل على صدق كلامه أنه «غير مستعد للصعود مع أناس لا يعرفهم اليوم فصفته المدنية قد لا تحصّنه من الفوضى» بل يذهب أبعد من ذلك، فتطوّر الأحداث بشكل متلاحق جعله يعتقد أنه في الأوضاع الحالية «لا يمكن الثقة بالناس حتى لو كنت عسكرياً»، فيعود من حيث لا يدري إلى ما رفضه في البداية حول حديث الرجل الستيني. رجل ستيني آخر وهو أبو علاء يعترف بأنه ينقل أناساً لا يعرفهم في سبيل المساعدة، لكنه يشترط أن يكونوا «رجال دين» أو كباراً في السن، لأن «مساعدتهم واجبة» برأيه!

«شدّ حريم»... وآخرين

يهتم الشبّان اللبنانيون بسياراتهم أكثر مما يهتمون بمعيشتهم. «هذا ليس على الفاضي» يقول حمزة (27 عاماً) ثم يضحك باستهزاء ليتابع حديثه بنوع من الانفعال العفوي «أتخن مرا بتطلع». حمزة يعترف بأنه تعرّف إلى فتيات كثيرات بهذه الطريقة، ثم لا يلبث أن يشرح أن جملته الأولى كانت نوعاً من المزاح، وأنه في الحقيقة «على السائق الحربوق أن يعرف الفتاة التي تقف على جانب الطريق لتركب السيارة المناسبة»، وأحياناً كثيرة تكون «الفتاة ترتدي لباساً مثيراً» لكن ليس بالضرورة أن تركب مع الغرباء. هذا ما أكّدته نانسي (22 عاماً) التي سخرت من عدد الشبّان الذين يعرضون عليها ما وصفتها «بخدماتهم وزعرناتهم» إلا أنها روت بخجل شديد قصة ركوبها مع أحد الشبّان في يوم ماطر أثناء عودتها من جامعتها في بيروت. شددت على أن نخبر القصة باسم مستعار، فإذا عرف والدها أنها المعنية «قد يشنقني». «لقد كان مهذّباً كثيراً ولم يتفّوه بكلمة طوال الطريق!»، نانسي شملت الشاب المهذب الذي تحدثت عنه مع الذين وصفت عروضهم بـ«الزعرنة»، مما يعطي انطباعاً بأن ثمة صورة نمطية تلاصق شبّان اليوم، يكاد التخّلص منها يكون مستحيلاً في ظلّ وجود أناسٍ مثل حمزة يصّرون على أن الظاهرة في تنامٍ، وأن «الفتاة التي تصعد مع شاب غريب تبدي تجاوباً لما هو أكثر»، تجاوب يضعه حمزة في خانة صحية ولا يعرى أنه غير أخلاقي «إننا لا نسرق ولا نقتل. الأوتوستوب هواية لا تخدش الحياء العام».
تتّسع الصورة قليلاً، لتشمل ربيع (26 عاماً) الذي يتحدث عن تحّرش أحد الشبّان به عندما عرض عليه الصعود من محلة عين المريسة، ليدّله إلى شارع كاراكاس فيحصل على توصيلة في الوقت نفسه. «بدأ يطلب أموراً غريبة ثم ما لبث أن عرض المال»، كان ربيع يرى أن «الأوتوستوب» يختص بما يسميه «شدّ الحريم» كما أنه يحاول ممارسته بنفسه لكنه لم يتوقع يوماً أن ركوبه مع أحد الغرباء قد يعّرضه «شخصياً» لتحرّش جنسي مماثل!

غياب وسائل النقليتخطى الأمر طلاب الجامعة ليطال العاملات. رانيا تعمل في الجيّة أمينة صندوق في أحد المسابح، ينتهي دوام عملها عند التاسعة مساءً، حيث من الصعب الحصول على وسيلة نقل بكلفة معقولة. لذلك لا تتردد في الصعود مع شبّان لا تعرفهم. سكنها مع بيت جدها يسهّل الأمر عليها اجتماعياً، «ربما لو كان أبي على قيد الحياة لكان قد رفض العمل من أساسه»، كما أنها بدأت تعتاد «الأوتوستوب» وابتكرت طريقة للتعامل مع الشبّان ذوي «النية السيئة»: أخبرهم أني «مجنونة» وأتصرّف على نحوٍ يؤكد ما أدّعيه فيتركونني في حال سبيلي.


كم تنفق على المواصلات؟

راجانا حمية
لم يكن السؤال صعباً لكن أدنى إجابة عنه قد تكلّف 8 آلاف ليرة صعوداً إلى الـ18 ألفاً أو 70 ربّما. بين كل هذه الأرقام قد يتحوّل سؤالك، في نهاية المطاف، إلى سؤالٍ آخر «كم يبقى لك من المال لتأكل؟». «كم يبقى معك؟». لا إجابة واحدة. تزدحم الأرقام، وخصوصاً أنّ «تسعيرة» الأمس ما عادت واردة اليوم. وهنا، تكفيك جولة واحدة في أحد الباصات لتكتشف «التسعيرات» وقصص الناس. قد تبدأ القصّة بالسير صباحاً مسافة عشر دقائق للوصول إلى موقف الباصات، حيث يجب الانتظار عشر دقائق أخرى ريثما يكتمل عدد الركّاب للانطلاق إلى موقف باصات «الرقم 4» عند أوتوستراد هادي نصر الله. هناك ينتهي مفعول «الألف الأولى»، وأيضاً الثانية التي توصل إلى شارع الحمرا، هذا إن لم يكن المواطن على عجلةٍ من أمره، وإلّا فالتسعيرة تصبح أربعة مع سيّارة الأجرة التي لا يقبل سائقها من موقف الضاحية إلى الحمرا إلّا بـ«توصيلة» وغالباً ما تكون «سرفيسَيْن». إذاً، إلى الحمرا بأربعة آلاف ليرة، ومن الحمرا إلى الضاحية أيضاً بأربعة أخرى، وكلّ ذلك باستثناء «الأربعة» الثالثة التي قد تطرأ خلال اليوم «من وإلى مكان العمل». وبين الضاحية والحمرا أيضاً، يصرف محمّد نحو 15 الفاً «صافي» في اليوم، من دون «الأكل أيضاً». وفي جردة حساب شهرية، اكتشف محمّد أنّ ما يصرفه خلال شهر يتخطّى الـ«416 ألفاً». كيف؟ يخرج من منزله في الشيّاح بـ«4 آلاف» إلى الحمرا ويعود منها في المساء بأربعة أخرى، تضاف إليها ثمانية آلاف «لزوم العمل». لا يهمّ، كلّ شيء «اجتاحه» الغلاء وليس المواصلات فقط، ولكن قد تكون هذه الزيادة هي الأقصى، وخصوصاً لمن يقضي يومه متنقّلاً بين المنزل والعمل الذي لا ينتهي بمجرّد الوصول إليه. ليال إحدى هؤلاء، فبعدما استطاعت شراء سيّارةٍ قبل موجة الغلاء، هي عاجزة اليوم عن تأمين مصروفها من الوقود، «كنت أحتاج إلى 57 ألفاً لملء خزّان الوقود من أجل أيّام العمل الستّة، صارت اليوم 75 ألفاً، تضاف إليها 3 آلاف يومياً لموقف السيّارات».