نقولا ناصيفلا يرضي اتفاق الدوحة أياً من الأفرقاء الذين شاركوا في وضعه. إلا أن أحداً منهم لا يسعه حمل وزر تخريبه، وهو يعوّل على الطرف الآخر كي يعمد إلى تعطيل تنفيذه. ولأنهما يتبادلان هذا الموقف يتعادلان سلباً، فلا يُخرّب اتفاق الدوحة. كان ثمة متضرّرون من بنوده الأربعة الأولى المتصلة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتأليف حكومة وحدة وطنية وتقسيم دوائر قانون الانتخاب وسلاح حزب الله. وكان كل من هؤلاء يفضّل تطبيق البند الذي يلائم مكاسبه السياسية ويعرقل سائر البنود. وهكذا لم يُطبّق من الاتفاق إلا انتخاب الرئيس ميشال سليمان بسبب الرعاية العربية والدولية المباشرة لملء الشغور في رئاسة الجمهورية. أما البنود المتبقية فاختلط بعضها ببعض لتشبّث كل فريق بالبند الأكثر التصاقاً بمصالحه. تعذّر تأليف حكومة الوحدة الوطنية ودخل على خطها التصعيد الأمني، سياسياً وعلى الارض، الذي ارتبط بدوره بالاستعداد المبكر للانتخابات النيابية ربيع 2009 من خلال فرض أمر واقع جديد في السلطة والشارع يكوّن الأكثرية المقبلة.
على نحو كهذا يختلف الموالون والمعارضون ـــــ بل يتناقضون ـــــ في تقويم النتائج السياسية التي ترتبت على اتفاق الدوحة:
ـ قوى 14 آذار لا تسلّم بأن تغييراً جديّاً وكبيراً، وموجعاً حتى، أصاب الوضع الداخلي الذي كانت قد قادته منفردة في السنوات الثلاث المنصرمة، ولا تريد أن تعترف بأن حكم غالبيتها انهار تماماً مذ سلّمت بانتخاب الرئيس بنصاب الثلثين الذي رفضته، وبإعطاء المعارضة الثلث الزائد واحداً في الحكومة الجديدة.
ـ والمعارضة بدورها لا تشعر بأنها انتصرت تماماً في بيروت وسائر المناطق كي تحصل على المكاسب السياسية الكاملة، أو على الأقل بدا لها أن ثمن الحصول على الثلث الزائد واحداً في الحكومة الجديدة هو أقل بكثير من ثمن وضع سلاح حزب الله على طاولة الحوار. لكنها في المقابل لا تتوهّم ـــــ ولا يتوهّم كذلك معظم الموالين ـــــ بأن هذا الحوار سيفضي إلى نتيجة. كان انتصار المعارضة ناقصاً على غرار الانتصار الناقص لقوى 14 آذار عام 2005 عندما قوّضت قواعد حكم الحقبة السورية، وعجزت عن إطاحة الرئيس إميل لحود، فأخفقت في وضع اليد على كل مفاصل الحكم.
ولا يعدو المأزق الذي يواجهه الطرفان في تأليف حكومة الوحدة الوطنية في الوقت الحاضر، وفي مآزق شتى أخرى سيقاربانها في ما بعد أخصها انفجار هذه الحكومة، لا يعدو كونه ترجمة فعلية لعدم اعترافهما بحدود التسوية التي اقترحها اتفاق الدوحة: أن لا تنهزم الموالاة تماماً، وأن لا تنتصر المعارضة تماماً. بذلك أضحى الأول فريقاً مكابراً، والآخر متغطرساً. هكذا كانا عام 2005، ولكن وفق أدوار ومواقع مقلوبة إثر مغادرة الجيش السوري الأراضي اللبنانية.
وهذا ما تعبّر عنه الملاحظتان الآتيتان:
1 ـ إصرار قوى 14 آذار على الاستئثار بالحقائب الرئيسية في حكومة الوحدة الوطنية على نحو ما كانت عليه تلك الحقائب في الحكومة المستقيلة، إلا أنها ضمّت إليها الآن حقيبة العدل التي كانت من حصة الرئيس السابق قبل أن ينقلب وزيره شارل رزق عليه، ويسلّم الحقيبة ونفسه للموالاة. بنت قوى 14 آذار تشبّثها بالحقائب الرئيسية، المدرارة مالاً أو خدمات، على كون توزيعها كذلك في الحكومة المستقيلة كان معياراً تمثيلياً ثابتاً. على عكس الطريقة التي تقارب بها قوى 14 آذار، والرئيس فؤاد السنيورة، تأليف الحكومة الجديدة، وهي أنها هي صاحبة الحق في أن تقرر عطاء ما تعطيه وحجب ما تحجبه. فيما واقع الأمر أنها حصدت في الحكومة السابقة حصتها الكبيرة لسببين: أولهما التحالف الرباعي الذي حدّد تقاسم السلطة الإجرائية بين قوى 14 آذار وقوى 8 آذار التي اعترفت حينذاك بما تجاوز انتصار الغالبية في انتخابات 2005، وهو الأمر الواقع الذي فرضه المجتمع الدولي على الوضع الداخلي اللبناني بوضع القرار 1559 موضع التنفيذ الفوري. فانحنت المعارضة للعاصفة بعد انهيار الدور السوري في لبنان. وثانيهما شبه الإجماع الذي أحاط بتكليف السنيورة ترؤس الحكومة عامذاك من الفريقين (126 صوتاً). إلا أن تأييد ترشيحه أخيراً انحسر إلى النصف تقريباً، الأمر الذي يحتّم وضع معايير مختلفة لتوزيع الحقائب على الموالاة والمعارضة. وقد لا يكون منطقياً الاعتقاد، في ظلّ نصاب الثلث الزائد واحداً، أن حصول فريق على حقيبة سيادية أو أساسية يمنع الفريق الآخر من التدخّل في شؤونها حول طاولة مجلس الوزراء. أو أن في وسع الوزراء الموالين من الآن فصاعداً استعادة تجربة خبروها مع الوزراء الآخرين في الحكومة المستقيلة، هي تهويلهم باللجوء إلى التصويت في الجلسة كلما تعذّر الاتفاق على بند.
تبعاً لذلك، قلّل اتفاق الدوحة من الفروق السياسية ـــــ لا القانونية بالضرورة ـــــ بين أكثرية وأقلية، ووازن بين الفريقين في مجلس الوزراء بأن أعطى كلاً منهما الثلث الزائد واحداً كي يمكنهما معاً عندما يهتز التوافق داخل السلطة التنفيذية من استخدام هذا السلاح لمنع الاستئثار بالقرار. اعترف اتفاق الدوحة بنتائج أحداث 7 أيار أكثر مما اعترفت بها قوى 14 آذار.
2 ـ لا يعدو الترابط بين الملفين الحكومي والأمني كونه جزءاً من التجاذب بسبب معرفة الطرفين أن التوافق، اللبناني والعربي والدولي، هو الذي يحمي النظام اللبناني وليس جيشه ولا أجهزته الأمنية. ويعرفان أيضاً أن الجيش والأجهزة الأمنية يحافظان على الاستقرار مقدار ما يقع هذا الاستقرار تحت سقف التفاهم السياسي، الأمر الذي يعزّز حجة الطرفين في استخدام التصعيد الأمني سعياً إلى مكاسب سياسية، أكثر منه تعريض البلاد للفوضى. وهما إذ تجنّبا أي تعرّض للمؤسسة العسكرية، يريان أكثر من مبرّر لإحداث ترابط بين الأزمة الحكومية وفتح ملفات الأمن والاستقرار بما في ذلك مصير الأجهزة الأمنية بالذات، ممّا يحمل كلاً من الموالاة والمعارضة على تبادل التهم بالسعي إلى فتح ملف الأجهزة الأمنية باكراً.
تقول الموالاة إن المعارضة تلوّح بفتح هذا الملف من أجل أن يكون هدفاً حقيقياً في المرحلة المقبلة، والمساومة سلفاً على ما تعدّه أحد أكثر الأجهزة الأمنية استفزازاً للمعارضة الذي هو شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي. وتقول المعارضة في المقابل إن الموالاة تبكّر هي الأخرى في إثارة الغبار حول الفرع للحؤول دون مناقشته في مرحلة التعيينات الأمنية المقبلة وإعادة النظر في أدوار بعض الأجهزة. وهكذا يلتقي الطرفان على تقاذف التهم حيال فرع المعلومات وهما يخوضان معركة أخرى مختلفة هي توزّع حقائب حكومة الوحدة الوطنية ورسم ملامح التوازن السياسي الجديد.
والواضح أن الأجهزة الأمنية اتسمت في السنوات الثلاث المنصرمة بكونها إحدى أدوات المواجهة السياسية أكثر منها مصادر معلومات للمراجع الرسمية التي ترتبط بها. قاطع بعضها بعضاً، وأخفى بعضها كالأمن العام تقاريره عن وزير الداخلية. وقد تمثّل شعبة المعلومات في قوى الأمن مظهراً رئيسياً للتجاذب السياسي من خلال سلسلة وقائع ـــــ واتهامات كذلك ـــــ حيال الدور الذي اضطلعت به. قيل إنها ورّطت الجيش في معركة مخيم نهر البارد، وقيل إنها هي التي كشفت علاقة فتح الإسلام بانفجار عين علق الذي قاد إلى مهاجمة هذا التنظيم المتشدّد وتصفيته. قيل إنها دعمت أو درّبت وتعاونت مع متشدّدين، وقيل إنها كشفت شبكة الـ13 الإرهابية. أحجمت منذ عام 2005 عن تزويد الرئيس إميل لحود تقاريرها الأمنية بسبب موقف تيار المستقبل منه حيال اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكن قيل في المقابل إنها وضعت تقاريرها الأمنية تلك في عهدة تيار المستقبل وأضحت جهاز استخباراته وعصاه السنّية.