strong>كأنه العد العكسي للإعلان عن إنجاز عملية التبادل. ليس الفضاء والتراب وذوو الأسرى والشهداء من يعدّ الفجر بعد الفجر حتى الحرية فحسب، بل الجماهير من كل لبنان تتحضّر للزحف مع المقاومة نحو استقبالهم من حيثما أطلّت أنوارهم
الجنوب ـ آمال خليل
لم يكن عبثاً أن يكون وجه الشهيد راني بزي هو خلفية شعار عيد التحرير لهذا العام (نعم.. إسرائيل تهزم)، وهو يصرخ ملء فمه حراً في معتقل الخيام المحرر في 23 أيار من عام 2000. فمن اختاره، ومنهم السيد حسن نصر الله، يدرك أن تحرير الأسرى قريب جداً. فهو الأكثر جمعاً للحرية والنصر معاً، لأن المهندس راني أو القائد اللوجيستي هو الذي قاد المواجهات ومجازر الدبابات في تلة مسعود وجبل الباط ووادي الحجير وعيتا الشعب، قبل أن يسلّم نفسه للشهادة قبل يوم واحد من انتهاء العدوان.

سمير البحر

ليس أمام سمير سوى القليل ليكمل نسج عودته كما يودّها، مثل التفلّت من الإجراءات الأمنية والبروتوكولية التي ستفرض عليه هو بالذات أكثر من غيره. يريد أن يكون البحر أول ما يراه لدى عودته كما كان لدى مغادرته. يتمنّى ليل نهار أن يكون البحر هو طريق العودة لا الطائرة إذا ما تعذّر براً عبر الحدود. وكعادته، ينهمك بتوضيب أمور الحركة الأسيرة في معتقل هداريم وعبره إلى كل معتقلات الأرض المحتلة قبل عودته. ومتعب هو أكثر من ذي قبل، لأنه يترك رفاقه إلى مصيرهم مع إدارة السجن، لكنه «يشيل» جانباً أكواماً من الصبر تعينه على حمل تعب السجن الكبير المقبل. أما شمعة ميلاده السادسة والأربعين في العشرين من الشهر المقبل، التي ربما سيضيئها للمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً في الهواء الذي سيراقصها فرحاً حتى الذوبان في بلدته عبيه، التي تتحضّر لعودة سمير إليها، والتي يؤكد أهلها أن «لا شيء قادراً على الحؤول بين الجبل وأبطاله».

محمد وماهر وحسين وخضر

أمام البيت العائد للحياة في عيتا الشعب، يقف أبو حسين والد الأسير محمد سرور، محاولاً استعجال إنجاز البناء ليستقبله هو أيضاً ويعوّضه عن المشهد الأخير في ذهنه للطوابق الثلاثة المكوّمة دماراً، وبينها مرتع الطفولة ومنزله المستقبلي. جيد أن محمد عاين عيتا العدوان قبل اعتقاله في بلدته. لذا فإنه على علم بأنه عائد إلى كل شيء مختلف من الحي من رفاق العمر والمقاومة الذين استشهد أغلاهم، وليس أولهم صديقيه محمد رضا وشادي سعد اللذين علم باستشهادهما صدفة بعدما رأى ذويهما في برنامج تلفزيوني.
فيما يعود ماهر كوراني حزيناً إلى ياطر، لأن أهله وزوجته إسراء وطفله علي لا يزالون يسكنون بالإيجار في طابق أرضي صغير بدل أن تفديهم الدولة ببيوت كثيرة، عوضاً عن بيتيهم اللذين دمرهما القصف الإسرائيلي على البلدة التي أسقطت طائرة معادية.
لكن الأهل ما بيدهم حيلة ما دامت اليد قصيرة ولا دولة. إلا أن الأم حزنها كفاية عليه لتتحمّل التفكير في ذلك مسبقاً، فهي الأكثر رفضاً ولا تزال لأسر ابنها. هي تؤكد أن استشهاده كان سيبدو أهون، لكن عينيها تؤكدان حقيقة متناقضة، تقول إن الأم التي تتحمّل غيابه لأقل من سنتين لا تتحمّله العمر كله.
أما خضر زيدان وحسين سليمان فإنهما يعلمان بأن منطقتي البسطة وبئر حسن تغيرتا منذ سنتين أكثر من اللازم، فهل تقوى الغرف الثلاث الصغيرة على الاحتفال بخضر، أو الطابقان المحشوران في الزقاق المختلف حتى مع ذاته على أن يرقص لعودة حسين؟

بين الحياة والموت

تساهم كليتا أم محمد فران في القلق من عدم شمول الصفقة ابنها البكر. الكليتان قلقتان، حتى لم تعودا قادرتين على العمل، فارتمت صاحبتهما في فراش خوفها، حتى أرسل إليها السيد نصر الله الشيخ عبد الكريم عبيد الذي أكد للأسرة الخائفة أنه لا ينسى محمد وضرورة كشف مصيره على الأقل، ما دامت إسرائيل تواصل عدم الاعتراف بمسؤوليتها أو معرفتها شيئاً عن الصياد الصغير. الأب ارتاح وأزال الهمّ واستعاد ثقته الكبيرة بالمقاومة، ودق قلبه بالطمأنينة مجدداً. لكن أمه وكليتيها لم تكفها التطمينات.
أم هلال علوية وأم حسن كرنيب لا تختلفان عنها. فهذه منتظرة تحت قلعة الشقيف في أرنون، وتلك مرابضة في حقل التبغ في مارون الراس، حيث توزّع نظراتها مرة إلى الأرض المحتلة المحاذية، حيث ابنها حي أو ميت، ومرة إلى محور التحرير حيث خطا آخر خطواته المعلومة، ومرة إلى السماء لعلها تسمعها وتجيب.
المهم في القليل المتوافر عن المفقودين هلال وحسن (21 عاماً) بأنهما مقاومان بالفعل المشهود. حسن ليس طالباً في السنة الثالثة فيزياء في الجامعة اللبنانية حين فقدانه، بل هو أحد أبطال مواجهات مارون الراس منذ اليوم الأول للعدوان، حين عاد من طريقه إلى بيروت ليستطلع نتيجة الامتحانات عندما سمع بعملية الأسر، فجاء سريعاً إلى البيت حيث بدّل ثيابه وودّع أهله للمرة الأخيرة ومضى في المقاومة. وبالرغم من أن أهله صمدوا أياماً أربعة قبل أن يضطروا إلى اللجوء إلى مهنية بنت جبيل ثم إلى خارج الجنوب، إلا أنه رفض أن يلتقي أمه حتى لا ترجوه أن يعود أدراجه معها ويرى دموعها. وفي 23 تموز 2006 فقد الاتصال معه ومع هلال واثنين من رفاقه في المجموعة، علي فقها من دبعال ومحمد وهبة من محرونة في محور التحرير. إذ وُجد جثمانا علي ومحمد لاحقاً في مكان آخر، كان قد نقلهما إليه الإسرائيليون على حمّالتين بهدف أسرهما قبل أن يضطرا إلى تركهما، حتى إن الشهيد علي قتل على الحمّالة. أما الآخران فلم يعثر عليهما لا أحياء ولا شهداء، حتى إن فحص الأشلاء التي عثر عليها في أرض المواجهات لم يعد أي منها إليهما.

شهداء

أعراس الشهادة ستؤمّ ديار عيناتا وعيتا الجبل وميس الجبل وجبشيت ومارون الرأس، والعرسان هم موسى خزعل ومروان سمحات وزيد حيدر ومحمد دمشق وعلي الوزواز وحسن فحص وموسى فارس.
فاطمة بسنتها الوحيدة وأشهرها الأربعة تتحضّر لاستقبال والدها الشهيد محمد دمشق الذي كان لها من العمر شهران في بطن أمها لدى استشهاده.
بالنسبة للطفلة، هي ماضية في لعبها وضحكها وغير منتبهة لوضعها الأصيل بالنسبة لها، فهي لم تعرف الوالد الشهيد وقبله العم الأكبر الشهيد منذ 14 عاماً. هي بالكاد تعرف والدهما الذي أصيب قبل شهرين بقنبلة عنقودية. ولما تقرّبها أمها بعد حين لتقبّل الصندوق الأصفر حيث ينام الوالد للمرة الأخيرة، وستقف مندهشة بالندبات والصراخ والإغماء ثم تمضي مجدداً إلى لعبها، إلى أن تنتبه في وقت ما في المستقبل لما رأت أمام الجثمان الأصفر.
أما بالنسبة لوالدته التي ستستقبل للمرة الثانية وصول جثمان ابنها بعدما انتظرته عبثاً في 15 تشرين الأول الفائت، ستكون أجمل الأمهات حينما تدفن ابنها الأوسط، ثم تقدّم ابنها الأصغر إلى المصير المحتوم «ما دام ما من دولة تفعل فعلها وترد عنا جور الأعداء».