جان عزيزمهما كانت الظروف الأميركية الداخلية، لا يمكن إلاّ التوقف مطوّلاً عند «وثيقة» كوندوليزا رايس، المنشورة مقالاً بتوقيعها في العدد الأخير من مجلة «فورين أفيرز»، تحت عنوان: «إعادة التفكير في المصلحة القومية: واقعية أميركية لعالم جديد».
قد تكون التحفظات على الاعتماد المنهجي لكلام رايس، كثيرة. منها أن «الأستاذة» باتت جزءاً من إدارة أميركية مغادرة. ومنها أن البديل لا يزال غامضاً، رغم بعض التنبؤات المتفائلة جداً لحسم هوية الإدارة ـــــ الخَلَف منذ الآن. ومنها أن سقوط المنظومة الفكرية واقعياً، للمحافظين الجدد، بات أمراً معلناً في واشنطن منذ تشرين الثاني 2006 على الأقل.
لكن رغم هذه التحفظات وسواها، يظل مقال رايس، ضوءاً ملحوظاً على سلوك الولايات المتحدة المقبل في السياسة الخارجية، وبالتالي إنارة ممكنة لما قد تكون عليه أمور «العالم الجديد»، الذي تشمله رايس برعاية «واقعيتها».
في المقال ـــــ البحث المطوّل، لا يزال الشرق الأوسط يحتل قسماً كبيراً من إعادة التفكير الأميركية. حتى إن مقاربة رايس لمنطقتنا، تمثّل نحو ثلث دراستها المفصّلة. غير أن مكان الشرق الأوسط، ترتيباً منهجياً ـــــ وبالتالي تراتبية أولوية ربما ـــــ جاء في المكان الرابع، بعد عرض رايس علاقة بلادها بالقوى العظمى، القديمة منها والجديدة، ومسألة «القيم المشتركة والمسؤوليات المشتركة»، والنموذج الديموقراطي للتنمية.
يبقى الأهم بالنسبة إلينا، ماذا قالت رايس عن الشرق الأوسط ولبنان؟ تحرص ناظرة الخارجية الأميركية بداية على تأكيد تمسكها بأهداف «حقوق الإنسان»، و«ترقّي التنمية الديموقراطية». وتمرّر تكراراً، تشبّثها بقيم الديموقراطية والأسواق المفتوحة، والحريات العامة وحكم القانون. وفي عودة، باتت تقليدية، إلى قراءة نقدية للسياسة الأميركية على مدى ستة عقود، تعترف رايس بأن بلادها أخطأت بدعم «أنظمة سلطوية»، من أجل ضمان «الاستقرار». وتعترف بأن هذا ما أسهم في نمو الحركات الأصولية الإسلامية العنفية. وإذ تحاول إجراء تقويم عام، للفشلين الأميركيين، فشل سياسات الاستقرار السلطوي قبل 11 أيلول، وفشل سياسات الدمقرطة المرتجلة بعد ذلك التاريخ، تخلص إلى السؤال: «لكن هل الوضع الآن فعلاً أسوأ من الوضع السابق؟». لتورد رايس ذكرها الأول للبيان ههنا: «هل الوضع أسوأ من حين كان لبنان يعاني تحت جزمة الاحتلال العسكري السوري؟».
لكن الصياغة العاطفية للذكر اللبناني لا تلبث أن تغيّب بيروت عن كل الدراسة والبحث، ليظهر أن رؤية رايس لما تسمّيه «الشرق الأوسط المتغيّر»، محصورة في التحديات الآتية: أولاً، تحدي مواجهة العنف الإسلامي المتطرف. وفي تفصيل هذه الأولوية، لا تتردد رايس في تأكيد أن واشنطن تحتاج إلى مواجهة هذا التحدي، إلى «أصدقاء وحلفاء» في الشرق الأوسط، يقاتلون «الإرهابيين الذين هم بينهم». وتعترف رايس بأن هذه الحاجة تفرض على واشنطن خيارات صعبة، كأن تدعم أنظمة غير ديموقراطية في السعودية والأردن ومصر وباكستان ودول الخليج، «لأننا نحتاج إلى أصدقاء قادرين في الشرق الأوسط الكبير». هكذا يعود التنظير الأميركي لسياسة «الاستقرار» على حساب الديموقراطية، من نافذة محاربة الإرهاب هذه المرة، لا تغيير أنظمة، بل تغيير سلوك الأنظمة... ليرتاح الحالمون والواهمون والثوار.
ثانياً، تحدي مواجهة بعض الدول التوسعية بوسائل غير ديموقراطية. وإذ تعطي رايس عن هذا التحدي أمثلة السلوك السوري في لبنان، والسياسة النووية الإيرانية، لا تلبث أن تسقط أي ذكر لوضع النظام في دمشق والعلاقة معه وأفقها واحتمالاتها، لتقدم في المقابل «سلّة» ملحوظة من الحوافز إلى طهران، إذا «غيّرت سلوكها»،
لتحل قضية الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي في المرتبة الثالثة من تحديات منطقتنا، ودائماً وفق وجهة نظر رايس، وليأتي بعد هذا التدهور في مرتبتها، تراجع آخر أكثر بروزاً في مضمون مقاربتها. في بضعة أسطر تختصر رايس «القضية المركزية» الشهيرة، بهذا النزاع بين فلسطينيين ديموقراطيين يرفضون العنف ويعترفون بإسرائيل، وفلسطينيين آخرين مناقضين لهم، لتخلص إلى أن الحل المطلوب يكمن في دعم العالم كله للأوائل، من أجل ضرب الأخيرين، تلك هي كل المسألة.
وتختم رايس قراءتها الشرق أوسطية، بعرض تحدٍّ رابع، يتمثّل في كيفية تعاطي واشنطن مع ما تسميه «المجموعات غير الدولتية»، والمشكوك في التزامها الديموقراطية واللاعنف. وتبحث رايس في نموذج حركة «حماس» في فلسطين وخوضها الانتخابات وفوزها وما انتهت إليه، لتستنج أن «مشاركة المجموعات المسلحة في الانتخابات إشكالية»، لكن هذا لا يعني عدم إجراء الانتخابات، ذلك أن انخراط هذه المجموعات في العملية الديموقراطية يزيد من مسؤولياتها إذا التزمت، ويفاقم مساءلتها ومحاسبتها إذا انقلبت.
ماذا تعني دراسة رايس؟ لبنان لم يعد ظاهراً على شاشة الحاسوب الأميركي المركزي. إسقاط أي نظام، عبارة ألغيت من قاموس واشنطن. المجموعات المسلحة مقبولة ضمن الأنظمة علّها تتروّض أو تفتضح. إيران مغازلتها دائمة. الباقي مجرد تفاصيل، على قاعدة «دعه يعمل... دعه يمرّ».