إبراهيم الأمينفاجأ وليد جنبلاط حلقة ضيّقة من أصدقائه، بينهم رفاق له في الحزب بسؤال: هل تعتقدون بأنّ عليّ ترك العمل السياسي في لبنان؟
لم يكن بين الحاضرين من يملك الجواب، أو حتى القدرة على التفكير في الموضوع. وجنبلاط ـــــ الذي يدرك هذه الحقيقة ـــــ سارع إلى الإضافة: تيمور يتعلم الأشياء بسرعة، ويمكنه أن يلعب دوراً أكبر في المرحلة المقبلة، وأنا قلت له من عام ونصف على الأقل إن عليه الاستعداد لدور كبير إذا اغتالوني. وأنا أشعر بأن تيمور يستطيع أن يلعب دوراً مباشراً خلال الفترة القريبة المقبلة، مما يساعده في التعرّف على كل شيء، ولا سيما على أحوال الطائفة والحزب، ويكون جاهزاً لتولّي المسؤولية».
وعندما بادره أحد الحضور بسؤال: هل تشعر أنك في خطر الآن حتى وصلت إلى هذه النتيجة؟ ردّ جنبلاط: «الخطر لم ينحسر يوماً، وأنا مقتنع بأن هناك من يريد قتلي متى توافرت له الظروف. لكنني من جهة ثانية مللت هذه البلاد وهذه السياسات، وخصومنا ربحوا علينا، وربما يتطور وضعهم إلى أفضل في الفترة المقبلة، وهناك أشياء كثيرة مرتبطة بي شخصياً، وإذا بادرت أنا إلى الانسحاب المبكر فربما يتيح ذلك لابني تيمور ولآخرين من زعمائنا إعادة وصل الأمور مع كثيرين في لبنان وخارجه».
ناقل الكلام قال إن جنبلاط لم يكن متوتراً على الإطلاق، بل كان هادئاً، يتحدث براحة وصفاء، ويبدو كما لو أنه فكّر ملياً في الموضوع، واهتمامه منصبّ بالأكثر على كيفيّة الإعلان عن هذه الخطوة، وهو واثق بأن قواعده لن ترفضها، ولو ظهرت هنا وهناك، وهي لن تعدو كونها أموراً منتظرة، ليست من النوع الذي يعطّل قراره، ولكن جنبلاط يدرس الخطوة وهو في قلب عملية تقييم لكل ما جرى معه منذ أعوام حتى الآن. وبحسب هذا المصدر، فإن جنبلاط كان قد أطلق أمام المقرّبين منه في الآونة الأخيرة سلسلة من المواقف التي تعكس نمط تفكيره:
أوّلاً: إنه مقتنع بأن سوريا هي الخصم ما دام بشار الأسد في الحكم، وإن دول الغرب والقوى العربية لا تبدو قادرة على تحقيق انقلاب يغيّر الأمور في عاصمة الأمويين، وهذا سيترك الانعكاسات الصعبة على لبنان، وهناك مؤشرات قد تقود إلى تكرار الصفقات المعلنة أو غير المعلنة بين الأسد والعواصم الغربية الكبرى، الأمر الذي يعفيه من الضغوط ويفك عنه الحصار ويطلق يده في ملفات كثيرة، أبرزها لبنان.
ثانياً: إن الغرب «لا يبدو مستعداً لأن يذرف دمعة علينا، ولا أن يبذل دماً في سبيلنا، وهناك تجارب كثيرة تؤكد هذه الحقيقة، وحتى الدول العربية التي نراها قريبةً منا، تواجه أوضاعاً صعبة داخلياً وإقليمياً، وليست في وضع يمكّنها من خوض معارك كبرى لأجل حفظ مصالحها ومصالحنا».
ثالثاً: إن الواقع السياسي اللبناني صعب ومعقّد، «وها هو حزب الله يمثل القوة الساحقة التي لا يستطيع أحد أن يقف في وجهها. وعندما قال لي مساعدون وبعض الكوادر إن علينا خوض مواجهة مفتوحة مع الحزب في عاليه والشوف قلت لهم: إذا كانت معنوياتكم مرتفعة فهذا لا يكفي، إلا إذا كنتم تريدون أن نصبح نحن من أنصار كربلاء ونمارس انتحاراً جماعياً. ثم ماذا يضمن لي، إذا ما ازدادت الامور سوءاً، أن تظل سوريا في سوريا، وأن لا يكون الهدف الأخير من هذه العمليات هو أن أذهب أنا إلى دمشق وأناشدها توفير الحماية لي ولعشيرتي، فينتهي الأمر بي أنا مطالباً بعودة الجيش السوري إلى لبنان؟».
وفقاً لهذه التصوّرات، فإن جنبلاط يبدو مهتماً بتوفير هدوء يتيح له ترتيب أموره الداخلية بما يسهّل انتقال ابنه تيمور من موقع المساعد إلى موقع القائد بأقل التجارب الممكنة، وهو لذلك بات في الأيام الأخيرة يعبّر عن قلقه من تعرض اتفاق الدوحة لانتكاسة عبر تعثر تأليف الحكومة، مما يعيد فتح الملف الأمني بصورة لا تناسب فريق الأكثرية ولا تناسبه هو شخصياً، بعدما أثبت له حزب الله بالملموس أن فكرة تحييد جبل لبنان عن أية مواجهة داخلية أمر غير وارد، وأنه في معزل عن الطبيعة الديموغرافية التي يتشكل منها جبل لبنان الجنوبي، فإن في وسع حزب الله وحلفائه لا نقل المعركة والمواجهة إلى قلب الجبل، بل حتى حسم الأمور وإطاحة خصومهم، وعلى رأسهم جنبلاط وجماعته. كما إن جنبلاط يتلقى من محازبين ومناصرين معلومات، بعضها صحيح وبعضها الآخر ملفّق حول تعزيز حزب الله وحلفاء له وجودهم في مناطق الجبل كلها، وإن الترتيبات جارية بلا توقف لفرض أمر واقع من النوع الذي يحول دون قيام أي مواجهة متكافئة في المستقبل.
كذلك، فإن جنبلاط الذي لم يغادر بعد موقعه الرافض لإعادة صياغة علاقات لبنان مع سوريا، يعرف أنه بما يقوله كمن يسجل موقفاً في الهواء، لأن طبيعة الوضع اللبناني بعد السابع من أيار الماضي فتحت ملف العلاقات اللبنانية ـــــ السورية على واقع جديد يصعب معه تجاوز حقيقة تطبيع العلاقات مع سوريا، عدا أنه يعرف أن الرئيس ميشال سليمان يعرف أن في طليعة مهماته ترتيب هذا الموضوع، وهو يجد من يحثّه عليه في لبنان وفي العالم أيضاً، وربما هذا ما فسر موقف جنبلاط الحاد من قرار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي التوجه صوب علاقات أفضل مع سوريا، علماً بأن ساركوزي والعاملين معه حصروا شرحهم لأبعاد خطوتهم بمسألة المحكمة الدولية، وقالوا لفريق 14 آذار إن باريس ستظل إلى جانب المحكمة، وهي تدرس إمكان ربط مستوى التواصل والتعاون مع سوريا بمدى تعاون دمشق وتجاوبها مع متطلبات عمل المحكمة الدولية، بما في ذلك احتمال أن تجمّد فرنسا أي اتصال مع سوريا إن هي رفضت طلبات توجهها إليها المحكمة الدولية بعد قيامها.
ثمّة أشياء كثيرة تدور في خَلَد زعيم الغالبية الدرزية، لكن الأكيد أنه قد يكون أكثر أقطاب 14 آذار واقعيّة في التعامل مع مقتضيات المرحلة المقبلة.