أنسي الحاج
فكرة عن الله
فكرتي عن اللّه ليست اللّه. مَن هو، ما هو اللّه؟ لا نعرف، ومن واجب خشوعنا أمام هذه الحقيقة أن تقودنا إلى الاستنتاج أن اللّه قد يكون أفضل ما في تصوراتنا عنه. ما معنى أفضل؟ المعنى البسيط، الأسرع إلى مراودة الذهن حين تُلْفَظ الكلمة: الخير، المحبّة، طاقة الخَلْق. أي: نقيض الموت والعدم واللامبالاة. ونقيض التعصّب طبعاً. والتحجّر والإرهاب والانتقام. اللّه في التصوُّر الطيّب هو الإيجاد الطيّب، الإيجابي، المفرح. فكرتكَ عن اللّه ليست اللّه إلاّ بمقدار ما تكون طيّبة. وهي مجرّد فكرة عنه، فلا تَحْسَبْها قانوناً. إنْ هي إلاّ الفكرة الأقلّ إساءة. اللّه، في حال آمنّا بوجوده، لا يريدنا أن نفرض على الآخرين وجوده بالطقوس والشرائع بل أن نُحسَّه عَبْر محبّتنا للآخر، للآخر المختلف عنّا خصوصاً، والمختلفة فكرته عن اللّه. حياة اللّه من حرصنا على حياتنا وحياة جميع الأحياء لا من قتالنا الدموي لأجل شيء، حتّى لو ظننّاه حقّاً وحقّاً لا يُعلى عليه. فلا شيء لا يُعلى عليه أكثر من حياة الكائن الحيّ.


صمتٌ عليك
يخيفني الصمت، في الليل خاصةً، فأستعين بِوَشيش الشاشة الصغيرة الخالية من البرامج، لا يطل منها إلاّ الأثير، وأرفع الصوت أقصى ما يتحمّل الجيران، وأجلس في أفيائه حتّى النوم.
لمَ الخوف من الصمت، ولطالما تغزّلنا به؟ لأنه في الليل صمت غيرك لا صمتك، ولأنه في مجاهل الغابة المظلمة يفتح أوكار الرأس المغلقة فتفوع ذئابه وتخرج أقزامه ولا تعود العينان تحتملان الوجه الحامل لهما.


تواضعان
لا يرون تواضع الفقير بل تواضع القادر. التواضع للفقير أو الضعيف مثل رمي الماء في الماء. يشعر المرء بالامتنان حيال ثريّ أو حاكم يسأله عن أحوال بيته. كما لو أنه إله يدخل إلى مطبخك. تواضُع ذي السلطان هو في الغالب تَظاهُرٌ للاصطياد. ابتسامة معلّقة على باب موصد.
كبرياء الفقير تُرى، وتريح الناظر إذ تُعفيه من التعاطف. البسطاء يحسبون الأكابر جنساً آخر، وجلودهم أنظف. مثلما الرجل ينسحر بالمرأة ويعيرها صوراً غير بشريّة كذلك البسطاء والفقراء تنفطر عقولهم وتذوب قلوبهم إذا اقتربوا من الأكابر. حتّى وهم يُعْدمون الأكابر في ساحات الثورة يشعر الفقراء بأنهم قطعان أصابتها نوبة جنون فهاجت على رُعاتها، وضمناً يتوقون إلى غدٍ يعود فيه إليهم سلام الطاعة.
البسطاء يستدعون الظالم كما تستدعي النعجة الذئب. دوام هذه الظاهرة يحمل على اليأس من آمال كثيرة. ما زال هابيل هابيلاً وقايين قاييناً رغم العصور. لا بل أوغل هابيل في هَبَله وتطوّر قايين فتخلّص من الضمير نهائيّاً. ويتساوى في هذا الغرب والشرق والشمال والجنوب.
هناك فقط فوارق المدنيّة.
لا يرون تواضع الفقير بل تواضع القادر. لكنْ، عجباً، هناك مع هذا مَن يرى! أشعر بذلك ضدّ كلّ منطق. ثمّة مَن يرى. وإلاّ لما استطاع الفقير أن يثابر في مجهوليّة آدميّته.
قوّةٌ ما تَسْند المُهْمَلين والمظلومين، البعض يدّعي أنّها خيرٌ كثير ينتظرهم في الغد، ولكنْ مَن يدري، لعلّها خير كثير كان لهم في سحيق الماضي ولا يزال مجده على قلوبهم.


خير، شرّ
حين يخيفك الشرّ هل يردّك خوفك إلى التشبّث بالخير؟ لعلّه يرمي على الأغلب في هَلَع العجز، فالخوف أكبر من الفعل.
حين يُفرحك الخير يغمرك نسيانُ الشرّ. عضّة الشرّ تُؤسّفك على الخير فتذكره، وأنت في هوّة العجز، بحسرة وتراه، وأنت في أشدّ الحاجة إليه، وهو يُمعن في النأي عنك.
غَمْرة الخير تجعلك في لحظة غافراً للآثام، فيما أمواج شمسك تتدفّق بلا حساب.
وستعرف أنه خير، من دمعِ فرحٍ تغرورق به عيناكَ الداخليّتان.


جوع
محبوبٌ لا يَشْبع هو شخص مُتعب ولكنّه قد يُستحسن على الصعيد الجنسي، حيث الشراهة دلالة على فائض الحياة. محبوبٌ لا يشبع عاطفيّاً ويظلّ يشكو الحرمان والوحدة، هو واحدٌ من اثنين: يتيم إلى الأبد، أو طمّاع عابدٌ لذاته ولن تملأه عبادات عُبّاد الأرض جميعاً. وأحياناً يتلاقى الاثنان في واحد، فيتأتّى الجبّار أو الطاغية، وتتكدّس أمام الأول القلوبُ الهاتفة وتحت قدمَي الآخر الجماجم.
وأتعسهم على الإطلاق محبوبٌ حقّاً، محبوبٌ لخيره العميم وجماله المكين، محبوبٌ لفضائل لديه لا يجاريه فيها أحد، محبوبٌ خِلْقَةً ودواماً وصيفاً وشتاءً، محبوبٌ بالبصر وعلى العمى، ويظنّ أن شعبيّته أساسها تعاسته.
عندئذٍ يصون تعاسته عوض أن يَهْنأ بالنعمة.


مثقّف؟
تحمل كلمة «مثقّف» على الحيرة والريبة. اليساري صنعها من خليط الملتزم والمناضل والماركسي والمحامي والمهندس والطبيب والكاتب والخطيب والنقابي والجامعي والأكاديمي واختصاصي التظاهرات والبيانات وصفحات الرأي في الجرائد. اليميني يُسقط عليها صفات المتعلّم والمتعدّد الاطّلاع واللامع والأستاذ والمتوقّد الذاكرة والمؤمن المتسامح أو الملحد المحافِظ. المثقّف عند الفريقين وسواهما هو الجاهز للاعتراض وتقديم الملاحظات والاقتراحات. إنه شيئاً ما توما، الحائر بين أن يكون رسولاً وأن يكون معارضاً. هي ترجمة لكلمة «انتلكتويل» والأصحّ أن تكون ترجمة لكلمة «كولتيفي». الأولى ترجمتها الأقرب هي «رجل فكر».
لا معنى لأن يتباهى أحد بأنه خريج جامعة أو قارئ كتب. وإن تباهى فمن المضحك أن يجعلها وظيفة. صار هناك طبقة اسمها «المثقّفون» كما صار هناك طبقة اسمها «المجتمع المدني». وصار هناك أشخاص اسمهم «ناشطون في المجتمع المدني». تسميات هيوليّة لمعانٍ غامضة أو وهميّة. وآخر بدعة شاهدتُها على الشاشات صفة «مفكر عربي» تحت أسماء شخصيات سياسيّة معروفة ويمكن وصفها بأي تعريف إلاّ «المفكّر». وإنْ يكن أتباعها بـ«العربي» يسوّغ هزليّتها.
هذه الفوضى نشأت من رخاوة في التسديد: عدم إجادة التسمية. ضبابيّة تخفي مجاملة أو جهلاً. وأتعس ما يكون، صفة «المناضل»، خاصة حين تُطْلَق على مَن لا أحد يستطيع أن يوضح ضد ماذا يناضل ومتى وأين انتصر وأين انهزم. مجتمع من الآرمات. لعلّ مصدر هذه الآفة هم الفرنسيّون، وبالتحديد فريق من اليسار الفرنسي المولع بالمفردات الحزبيّة والعسكريّة والاختصاصيّة. لا سيما منذ قضية الضابط اليهودي دريفوس ودفاع إميل زولا عنه. الشعراء أنفسهم لم يَسْلموا من هذا الوباء حين انتشرت بين الدادائيين والسورياليين في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، ورغم أنارشيّتهم الرافضة كلّ سلطة، تعابير ناهية زاجرة آمرة تستوحي اللغة العسكريّة والنفحة الديكتاتورية. ليتنا نرجع إلى الكلمات البسيطة، الرشيدة. «كاتب»،مثلاً، ماذا تشكو؟ وأديب وناقد وشاعر وباحث وقاصّ ومؤرّخ وصحافي؟ الثقافة، أوّلاً وأخيراً، ليست بالشيء الخطير مقارنةً بفنون الخَلْق وبنقد هذا الخلق. وفي كلمة «مثقّف» تصنيف اجتماعي أدنى إلى الوجاهة. اتّساع دائرة المعنى في هذه الكلمة حتّى ضياع المعنى يستدعي التحفّظ في استعمالها. كأنها غطاء لعموميّة تريد أن تخفي طفيليّتها. إذا كان لا بدّ من كلمة شاملة تؤدّي معنىً مشابهاً وتتخفَّف من ادّعائيّة كلمة «مثقّف»، فلماذا لا نفكر في كلمة «شاهد»، مثلاً؟


احسمْ
أَقِمْه من الموت دون تمنين، أو دعه يموت دون رثاء. التي تُحيي هي الكلمة المسكوتة المدكوكة دكّاً في الإرادة. الثانية، كلمة الشرح والاعتذار، حفّارة قَبْر.


الدائم، العابر
لا تنعجق بالزمن كسباق إلى مَغْنم فهذا فجور، بل سابقْه لتنساه. على طريق النسيان أعطِ ما أمكنك. دع الدائم النيّر الذي فيك يحتقر الموت العابر الذي في الزمن عدوّك.