عمر نشّابةأثبتت المبادرات السياسية الأخيرة التي نجحت إلى حدّ كبير في معالجة الصدامات المسلّحة، أن الأمن في لبنان رهن التوافق السياسي بين القوى المتجذّرة محلّياً (بغضّ النظر عن قوتها القتالية أو ضعفها)، والمتشعّبة إقليمياً ودولياً (بغضّ النظر عن طبيعة تحالفها مع قوى خارجية). لذا فإن التعويل المشاع على قدرة وزيري الداخلية والدفاع المعيّنين من حصّة رئيس الجمهورية التوافقي، في حفظ الأمن مبالغ فيه. فلا قدرة عملية لهذين الوزيرين دون توفير الديناميكية السليمة داخل المؤسسات التابعة دستورياً لوزارتيهما، وتسهيل العلاقة بينها من جهة، وبين كلّ منها والوزير المختصّ من جهة أخرى. فوزير الدفاع مثلاً ليس الآمر الناهي للجيش، كما أن المدراء العامين لقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والدفاع المدني والداخلية لا يختارهم وزير الداخلية وحده بل مجلس الوزراء الذي سيتألّف، بحسب تسوية الدوحة التي أدّت إلى منح الأقلية النيابية ثلث عدد الوزراء زائداً واحداً، من قوّتين معطّلتين لأي قرار لا يناسب كلاً منهما. يبدّد ذلك الأمل بتعيين وزيرين «مخلّصين بشخصيهما» لتولّي «الحقائب الأمنية»، إذ إن أي قرار سيتخذانه بشأن الأمن سيكون تطبيقه مشروطاً بموافقة الأقطاب السياسيين المجموعين في مجلس الوزراء. أما الحيثيات العملية لشروط تطبيق القرارات الوزارية فهي مرتبطة بالمحاصصة في توزيع مراكز القوى داخل المؤسسات التابعة دستورياً لكلّ من الوزارتين المعنيتين بالأمن.
إن قرار مجلس الوزراء السابق إقالة رئيس جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير، لم يطبّق بعد أن تبيّن أن لا توافق بخصوصه وليس بسبب عدم شرعية الحكومة. وأيضاً في الحكومة الآتية، يتوقّع أن يدرس وزيرا الداخلية والدفاع وقائع ما حصل جيداً ويبتعدا عن إصدار قرارات لا تحظى بتوافق الأقلية النيابية، حتى لو كان رئيس الوزراء يدعم تلك القرارات. فقد يكون من الحكمة إدراك أن وزن رئيس الوزراء في الحكومة الآتية لا يزيد عن وزن الأقلية النيابية في تطبيق القرارات، وخصوصاً تلك المتعلّقة بأمن البلاد.
قد يكون لوزيري الداخلية والدفاع الآتيين مناسبات للتأثير السلبي على حفظ الأمن أكثر ممّا سيكون أمام شخصيهما مناسبات للتأثير الإيجابي. التوصل لهذه الخلاصة في قراءة الاحتمالات يأتي بعد مراجعة أداء وزيري الداخلية والدفاع السابقين، والتناقضات التي طغت على تحرّكاتهما ومواقفهما في السياسة، وفي التعاطي مع الشأن الأمني ضمن إطار تأثير السياسة على الأمن.
فوزير الدفاع (ونائب رئيس الوزراء) كان قد عُيّن في الحكومة السابقة على أساس أنه قريب من رئيس الجمهورية (وحتى لو أنكر ذلك اليوم، قد لا تتغيّر قناعة شريحة لا يستهان بها من اللبنانيين بذلك)، ثمّ قرّر الابتعاد عنه والتقرّب من قوى الأكثرية النيابية. ما بدا كأنه تناقض في مواقفه السياسية يؤثّر سلباً على تجاوب عدد من المواطنين مع قراراته، وعلى علاقته بعدد من الرسميين الخاضعين لوزارته ولدوائر أخرى. فتغيير الولاء يثير الشكوك، وقد يحرم الدولة من فرص حلّ أزمة الثقة.
أما وزير الداخلية السابق فتجاوز صلاحياته الدستورية عبر اتهامه علناً، وربما بدوافع سياسية، دولة عربية تجمعها بلبنان اتفاقية دولية (كان أقرّها مجلس النواب ورئيس الحكومة السابق الشهيد رفيق الحريري)، بدعم الإرهاب والقيام بعمليات إجرامية قبل صدور قرار قضائي بهذا الشأن. تناقَضَ كلام الوزير السابق للداخلية مع القراءة القضائية الصادرة عن المدعي العام التمييزي، فلم تشر تلك القراءة إلى أي علاقة للأجهزة الأمنية السورية بالإرهابيين.
ووزير الداخلية السابق بالوكالة كان قد شارك أيضاً في حفلة التناقضات، بعد أن أعلن بكلّ ثقة إثر استشهاد طفلين في الرمل العالي، أن عناصر قوى الأمن لم يطلقوا النار علىهما، بينما تبيّن للقضاء العسكري أن مطلقي النار هم عناصر في قوى الأمن.
لا شكّ في أن الوزيرين الآتيين إلى الدفاع والداخلية سيتحمّلان وزر تناقضات الماضي، كما سيتحمّلان وزر الكلام غير المسؤول الذي كان قد تردّد عن إنشاء جهاز استخبارات تابع أو قريب من مذهب معيّن أسوة بـ«تبعيّة» جهاز الاستخبارات الحالي، بحسب تلك المزاعم، إلى مذهب آخر. هذا الكلام هو مثل بسيط على جملة من التصرّفات الصبيانية التي ما زالت قوى الأكثرية النيابية تعتمدها، دون إدراك حساسية الإرث التاريخي المعقّد لتوزيع مراكز القوة منذ الاستقلال.
أمام الوزيرين الآتيين إلى الداخلية والدفاع مسؤولية عملية، ليس إلغاء الفساد بشكل كامل وتحويل الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والجيش إلى مؤسسات مثالية، فهذه أمنيات من الصعب تحقيقها خلال عام (حتى موعد الانتخابات النيابية المقبلة)، بل دراسة أخطاء الماضي وتناقضاته لتجنّبها، وإدراك الخصوصيات المعقّدة للمؤسسات المعنية بالأمن. ففي تلك المؤسسات محسوبيات ومحاصصة سياسية، وكما غيرها من المؤسسات الرسمية، تجد القوى والتيارات الحزبية والمذهبية والطائفية نفسها مضطرّة لاستخدام نفوذها لتأمين الخدمات لمناصريها.
أخيراً لا بدّ من الإشارة إلى أنه، أياً كان وزيرا الداخلية والدفاع، لا مفرّ من التنسيق مع المقاومة، وكلّما زادت نسبة الثقة المتبادلة كلّما تحسّنت فرص ترسيخ سلطة الجيش وقوى الأمن في حفظ الأمن.