نقولا ناصيفدخلت عبارة الحقائب السيادية إلى قاموس اللبنانيين، من غير أن يجدوا مصدراً لها يبرّرها سوى الخلاف السياسي. تماماً كالعبارتين اللتين درجتا في الأشهر الأخيرة، وهما حكومة الوحدة الوطنية والثلث الزائد واحداً، اللتين لا يقع أحد على مصدر قانوني لهما. ولا يعني ابتكار عبارات كهاتين وسواهما إلا محاولة لتجنيب الخلاف السياسي التخبّط في مأزق مكلف، فيصار عندئذ إلى إيجاد حل من لائحة الأعراف القائمة. هذه العبارات تشبه صيغاً قديمة خبرتها العهود الرئاسية التي كانت تبحث عن طريقة لتبرير مخرج لمشكلة لا يعدو كونه إلّا حلاً وهمياً. لكنه كان يقنع الأفرقاء اللبنانيين لأنه كان يرضيهم وينطوي على فكرة التسوية. عرف مثلها الرئيس بشارة الخوري عندما لجأ إلى قائد الجيش لترئيسه حكومة انتقالية تتسلّم صلاحيات رئيس الجمهورية عند شغور المنصب، ومن ثم تحوّل قائد الجيش حلاً رئاسياً كلما اختلف السياسيّون على انتخاب رئيس من صفوفهم. وعرف مثلها الرئيس كميل شمعون عندما رأى واقع النظام السياسي اللبناني يحظّر محاسبة مسؤول سابق على ارتكاباته، فلم يعد الرئيس والمسؤولون مذذاك عرضة لمحاسبة. وعرف مثلها الرئيس فؤاد شهاب عندما تكلم عن «لا غالب ولا مغلوب» من أجل إخراج لبنان من حرب أهلية. ومثلها أيضاً عرفها الرئيس شارل حلو عندما رأى أن الحلّ الأمثل لتفادي انفجار داخلي وشيك هو إلهاء الأفرقاء المتنازعين بخلافاتهم من أجل تأجيل هذا الانفجار. وعرف مثلها الرئيس سليمان فرنجيه عندما ابتكر والرئيس تقي الدين الصلح فكرة حكومة كل لبنان كي لا يكون أحد خارج السلطة التي سرعان ما انفجرت.
أما في الحقبة السورية، فكان أبرزَ ما أدرجته دمشق عُرف غير قابل للجدل، هو وجود وزراء ـــــ ثوابت هم حلفاؤها الأوفياء، لا تتألف حكومة من دونهم. وهكذا لم يأتِ أحد على تصنيف الحكومات والحقائب لأن دمشق كانت هي المعنية بتأليف الأولى، وتوزيع الثانية على حلفائها. ولم تكن ثمة حاجة إلى حكومة وحدة وطنية ما دامت سوريا هي التي تأتي بالغالبية النيابية. تبعاً لذلك، لم يكن يعوزها أيضاً ثلثا الحكومة أو الثلث الزائد واحداً لأن الوزراء جميعاً تقريباً هم رجالها. وعندما انسحب الجيش السوري من لبنان وسقطت المرجعية السورية، بشقيها السياسي والأمني، راح الأفرقاء الذين ورثوا هذا الفراغ يبحثون عن ضمانات لاستمرار شرعية هذا الإرث.
وفي واقع الحال لم تُطرح منذ إقرار اتفاق الطائف سوى ثلاثة إشكالات لم يلحظها الدستور، وسببّت في غياب نص صريح بفتح باب الاجتهاد من غير أن تتحوّل طويلاً أزمات دستورية: أولاها إعطاء وزارة المال إلى الطائفة الشيعية كي تحمل التوقيع الثالث على الليرة، فدرج هذا العرف في الحكومات الثلاث المتعاقبة ما بين عامي 1989 و1992 حتى وصول الرئيس رفيق الحريري إلى الحكم. ثانيتها عدم ربط رئيس الحكومة المكلف بمهلة تأليف الحكومة الجديدة، ومن دون إلزامه الاعتذار إذا أخفق في مهمته إذا لم يشأه هو. فكان أن انسحب عدم الإلزام هذا على اجتهاد خبرته حقبة الرئيس إلياس الهراوي أكثر من مرة هو اعتكاف رئيس الحكومة كلما اختلف مع رئيس الجمهورية أو رئيس المجلس أو الاثنين معاً، ثالثتها مشاركة رئيس الجمهورية ورئيس المجلس ورئيس الحكومة في تأليف الحكومة على نحو بدا معه الثلاثة أنهم المعنيون بتحقيق توازن القوى داخلها وتقاسم نصابها، الأمر الذي برّر بين انتخابات 1992 و2000 وجود أربع كتل نيابية كبيرة كانت تُحكم سيطرتها على مجلس النواب ومجلس الوزراء وتتوزّع الحقائب، وكلها حليفة لسوريا. ومع أن رئيس الجمهورية كان أضعف هؤلاء حصة في مجلس الوزراء، ولم يكن يملك في مجلس النواب إلا قلة من نواب لم يزد عددهم على أصابع اليدين، فواقع الأمر أن تحالفه مع سوريا كان يجعله، كالهراوي ثم الرئيس إميل لحود، صاحب الغالبيتين البرلمانية والحكومية. لم تكن ثمة حقائب سيادية لأن سوريا كانت تضع حقائب الدفاع الوطني والداخلية والخارجية في عهدة حلفائها، وكانت ثقتها بالحريري تشعرها بأن المال حقيبتها هي. لم يؤتَ حينذاك على تسميتها حقائب سيادية وإن بدت ظاهراً أنها أكثر التصاقاً بالتعريف المطلق للسيادة: اعتماد الدولة اللبنانية سياسة خارجية سيّدة، وفرض سيادتها على الحدود والأمن الداخلي، وسيادتها على النقد الوطني. وبطبيعة الحال لم يكن أي من هذه، على مرّ عقد ونصف عقد من الزمن، إلا جزءاً من تأكيد شرعية وجود سوريا في لبنان. في ظلّ النفوذ السوري لم يؤتَ على ذكر حقائب خدماتية لأن هذه كانت، ظاهراً أو ضمناً، في عهدة وزراء حلفاء لسوريا سيّروا مصالح دمشق.
بعد خروج سوريا من لبنان بات تصوير الحكومات على أنها حقائب متفاوتة الأهمية والدور. لا أحد يملك تفسيراً قانونياً لتمييز إحداها عن الأخرى. صُنّفت الخارجية والمغتربين والدفاع الوطني والمال والداخلية باباً أول، والأشغال العامة والنقل والاتصالات والعدل والشؤون الاجتماعية والصحة والعمل والطاقة والمياه والإعلام باباً ثانياً، والتربية والاقتصاد والزراعة والصناعة والبيئة والسياحة والثقافة باباً ثالثاً، ووزارة الدولة باباً رابعاً وأخيراً مع أن الرئيس نبيه برّي يقول إن وزير الدولة بعد اتفاق الطائف أضحى وزيراً سيادياً بسبب الدور المنوط به في مجلس الوزراء وتمثيله السياسي الذي يجعله جزءاً لا يتجزّأ من توازن القوى.
والواضح أن الحجج التي تتسلّح بها كل من الموالاة والمعارضة في وجه الأخرى تمسكاً بحقيبة سيادية دون أخرى، أو رفضاً لما يطالب به الفريق الآخر، لا مبرّر لها سوى اعتراف الطرفين بأن أحدهما لا يزال لا يثق بالآخر. وهو يطالب بحقيبة رئيسية كي يوازن بها خصمه لدى ممارسته حق النقض داخل مجلس الوزراء في أحد المواضيع الثلاثة الأكثر تهديداً للاستقرار الداخلي: النقد والأمن والعلاقة مع الخارج. ورغم اكتفاء اتفاق الدوحة بتحديد عدد مقاعد كل منهما في الحكومة الجديدة، فهو شرّع ضمناً تقاسمهما الحقائب وسلّم لهما بتصنيف الحقائب سيادية وخدماتية وكرّس عرف الحقائب السيادية التي لم تُثر في الحكومة الأولى للرئيس فؤاد السنيورة عام 2005. حينذاك حصلت الموالاة على معظم الحقائب السيادية والخدماتية بسبب تمثيلها الغالبية النيابية، وأعطي الرئيس إميل لحود حقيبة الدفاع الوطني، كما تُعطى للرئيس ميشال سليمان اليوم، لتحييد المؤسسة العسكرية لا لأنها حصته. ولم يُثر في تلك الحكومة الثلث الزائد واحداً، ولا ظنّ أيّ من الفريقين أنه سلاح سرّي لتعطيل مجلس الوزراء.