استباقاً لإعلان إنجاز تبادل الأسرى، لا يزال آلاف المفقودين والشهداء المحسوبين على «ذمة» إسرائيل وعملائها رهن المجهول. وإذ لم تكشف العمليات السابقة مصير معظمهم، يتخوف ذووهم من تلك المرتقبة. فمَن بعد إنجازها «يستفقد» المفقودين وينبش المقابر؟
الجنوب ـ آمال خليل

عندما تحرّر الأسير نسيم نسر، ضحكت عيون البعض وبكت عيون البعض الآخر. أحرجهم الخوف من عدم شمول المرحلة الكبرى أبناءهم، أحياءً كانوا أو أمواتاً، أو كشف مصيرهم على الأقل، ما يعني أن الفرصة الأخيرة يمكن أن تضيع عليهم. فهل يحمل التبادل المنتظر المفاجآت الكبرى لهؤلاء المحروقين باللاعلم عن مصير أبنائهم في ظل التعنّت الإسرائيلي المتواصل في إنكار مسؤوليته عن آلاف المفقودين الذين خطفوا على يديها أو الميليشيات التي تعاملت معها وجثامين شهداء قوى المقاومة الوطنية التي فقدت في أماكن العمليات أو دفنها الجنود أو العملاء في مقابر جماعية ولم يخبّر أحد عنها.

بالنسبة إلى حزب الله

في مؤتمر صحافي عقده السيد حسن نصر الله بُعيد أسر الجنود الإسرائيليين الثلاثة في عام 2000، قال إن «الحزب سيطالب خلال التفاوض لتبادل الأسرى، بفئات ثلاث: الأسرى الأحياء، جثث الشهداء والمفقودين الذين فقدوا خلال عام 1982 و1983»، باعتبار أن معظمهم فقدوا خلال هذه الفترة في الاجتياح الإسرائيلي وصولاً إلى بيروت، على الرغم من أن هناك مفقودين منذ عام 1978. وأكد ضرورة «التمييز بين مخطوفي الحرب الأهلية والذين خطفوا على يد الاحتلال والميليشيات المتعاملة معه وسلمتهم لاحقاً لإسرائيل»، على غرار الأسرى الستة (أحمد طالب وأحمد جلول وحسين رميتي وحسين أحمد وحسين طليس وغسان الديراني) الذين خطفتهم القوات اللبنانية في مرفأ بيروت في عام 1988 وسجنتهم في زنزانات تحت الأرض حتى عام 1990 حينما نقلتهم بالبواخر إلى حيفا حيث أسروا في سجون الاحتلال، علماً بأنهم ظلوا مفقودين لا يعلم أحد عنهم شيئاً إلا بعد مرور ثلاث سنوات على اعتقالهم في فلسطين المحتلة عندما زارهم الصليب الأحمر الدولي.
تجدر الإشارة إلى أن مصطلح «المفقودين» الذي طرح خلال التفاوض حتى إنجاز التبادل في مطلع عام 2004، كان جديداً من نوعه ويدرج للمرة الأولى. وفي حينها لم يكشف مصير مفقودين، وإن كان قد استعيد 56 جثماناً لشهداء من الحزب وغيره من أحزاب جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ما يعزّز في كل الأحوال مخاوف أهالي المفقودين من الإنكار الإسرائيلي المستمر لوجودهم.

من المسؤول؟

بموجب هيئة تلقّي مراجعات أهالي المفقودين التي ألفتها حكومة الرئيس سليم الحص في العشرين من كانون الأول من عام 2000 والتي أجرت استطلاعاً ميدانياً قامت به الأجهزة الأمنية واستجوبت ذويهم ومسؤولي الميليشيات والتنظيمات التي عملت حتى عام 1990، وتبين في نتائجها أن 216 معتقلاً لبنانياً في السجون الإسرائيلية بحسب ما أشارت المعلومات الواردة عن ظروف اختفائهم. وبعد مراجعة الصليب الأحمر الدولي، أفاد رئيسه آنذاك فورنييه بأن إسرائيل تعترف بوجود 17 معتقلاً. لكن التقرير المعلن في نيسان من عام 2005 سمّى 67 مفقوداً «يطلب إلى الصليب الأحمر مراجعة إسرائيل عنهم».
وإذ أوصت اللجنة بإعلان وفاة جميع المفقودين، رغم اعترافات مسؤولي الميليشيات عن عمليات التصفية الجسدية المتبادلة خلال الحرب الأهلية وإلقاء بعض الجثث في البحر ودفن أخرى في مقابر جماعية يحددها تقرير اللجنة بمدافن الإنكليز في التحويطة ومقبرة الشهداء في حرج بيروت ومدافن مار متر في الأشرفية. هذا من دون إغفال عشرات المقابر الجماعية التي كشف النقاب عنها وأخرجت إلى العلن في مختلف المناطق، وخصوصاً تلك التي أعلن عنها تباعاً منذ تحرير الجنوب، ونُقل بموجبها عشرات الأشخاص من عداد المفقودين إلى عداد الشهداء، وإن بعد عقود. فبعد تبادل عام 2004، ناشد السيد نصر الله المواطنين في المناطق المحررة المساعدة في كشف مصير بعض المفقودين والشهداء الذين تزعم إسرائيل أنهم ليسوا لديها. وتم الكشف عن مقابر عدة، منها في تلة السدانة في شبعا، حيث أعلن أحد الرعاة أنه دفن عام 1990 خمسة مقاومين سقطوا بعد عملية ضد الاحتلال، بينهم إنعام حمزة وحسين ضاهر اللذان كان الحزب الشيوعي يطالب باستعادة جثمانيهما من فلسطين المحتلة. وقبلها شهيد منظمة العمل الشيوعي يونس رضا الذي اختفى مع ثلاثة من رفاقه في رأي الجميع في 14 آذار 1978 إثر عملية ضد الاحتلال في بنت جبيل. واتضح بعيد التحرير أن أحد المواطنين دفنهم في الطيري.
وكانت «الأخبار» قد كشفت في عدد (11 تشرين الأول 2007)، عن وجود مقبرة جماعية في رب ثلاثين (قضاء مرجعيون) دفن الأهالي فيها، بأمر من العدو وعملائه وحضورهم، خمسة مقاومين سقطوا إثر هجوم الجيش الإسرائيلي عليهم في تلة البلدة ينتمون إلى فصائل فلسطينية ولبنانية، علماً بأن ثلاثة آخرين دفنوا معهم، اثنان من البلدة هما حسن سلامة بركات وعلي حسين بركات وثالث من كفرا وأعيد دفنهم في بلدتيهم بعد التحرير. ويبدو أن الخبر لم يهم أحداً، لأن الأجهزة الأمنية لم تتحرك لنبش هذه المقبرة والعشرات غيرها.

ما بعد التبادل

لا يحمّل محيي الدين، ابن الأسير المفقود محمد سعيد الجرار حزب الله مسؤولية عدم شمول أبيه المرجّح في التبادل المرتقب، ما دام الذنب الأول لإسرائيل وعملائها اللبنانيين الذين خطفوا الآلاف، وبينهم والده، في عام 1979 في بلدته شبعا وكان برفقتهم عميلان من القليعة هما إبراهيم ح. وفؤاد ح. وزج في معتقل تل النحاس. وقد اعترف أحدهما في مخفر مرجعيون بأنه سلّم الجرار إلى سعد حداد الذي نقله بدوره إلى مركز المخابرات الإسرائيلية في المطلة ثم إلى المجهول. عينا محيي الدين بكت مراراً لدى كل تبادل مع إسرائيل، ويبدو أنهما «ستبكيان مجدداً»، يقول. ومثله علي، ابن الأسير المفقود موسى الشيخ سلمان من معركة الذي اعتقلته قوات الاحتلال قبل 26 عاماً مصاباً بالقصف على المدينة بعدما نقله الصليب الأحمر الدولي إلى المستشفى الميداني في المعلية ثم إلى داخل فلسطين.
الجرار وذوو الأسير المفقود حسن بلوط الذي خطفته قوات الاحتلال من بلدته كفر ملكي برفقة العميل الفار إلى فلسطين المحتلة طوني ف. الذي «يملك الرواية الكاملة عن مصيره بعد اختفائه من ثكنة جزين»، قال إن «الدولة مسؤولة عن كشف مصير المفقودين إذا ما كشف التبادل مصيرهم، بأن تحاكم محاكمة عادلة، العملاء شركاء إسرائيل في الاعتقال المعروفين الذين يسرحون ويمرحون مثل رؤساء الميليشيات الذين يتحكمون بمصيرنا اليوم».
تضحك صبحية حجازي شقيقة المفقود علي الذي خطفه عناصر من الكتائب خلال الاجتياح الإسرائيلي «من الآتي الذي يظن أقرانها أنه سينهي مأساتنا». تقول وهي تداعب وجه علي في الصورة التي تعبت من الاعتصامات والمطالبة بعودة صاحبها فاصفرّ وجهها: «لماذا على إسرائيل أن تتحمّل وحدها ذنب أبنائنا، والبعض في لبنان إسرائيليون أكثر منها فتحوا لها الباب وسهّلوا الطريق أمامها ولا يزالون. نحن يجب ألاّ ننسحب من المشهد اللبناني، لأن هذا هو لبنان حيث العدالة مفقودة أيضاً».