يشتهر اللبنانيون بحبّهم للمظاهر الذي يفسّرونه بإتقان فنّ العيش. ممارسة هذا الفن مكلفة وغالباً ما تترافق مع دين يتراكم لسنوات ثمناً لكماليات ينسى أصحابها كيف استخدمت مع استمرارهم في دفع مستحقاتها. هم بذلك لا يختلفون عن غيرهم من شعوب العالم في عصر العولمة... إلا قليلاً
جيزيل خلف

اللبنانيون أمراء الاستهلاك. اللبنانيون يحبون المظاهر. ينطبق على اللبنانيين مثل «من برّا هللا هللا ومن جوا يعلم الله»...
هذه بعض من أحكام تلاحق اللبناني، ولم يعد القول إنها «مسبقة» ليلغي صدقيتها أو يخفف منها، ما دام اللبنانيون أنفسهم يعترفون بالرضوخ لضغوط مجتمع يضع «البرستيج» في مرتبة أولى، ويعزّز كل مظاهر الرغبة في الظهور على حساب مقوّمات الحياة اليومية.

إثارة الدهشة

سارة (22 عاماً) لبنانية وتعيش في لبنان، لكن حتى الآن لم يتبيّن سبب استخدامها اللغة الإنكليزية في مجمل أحاديثها، مع علمها أن كلامها ليس مفهوماً للجميع. تقول «أنا أحب اللغة الإنكليزية وأستخدمها لأنني أستمتع بالقيام بما يجعلني مميزة عن فتيات سنّي، ويجعل نظرات الناس مغلّفة بالدهشة دائماً».
نيبال (22 عاماً) الذي لم ينه بعد تسديد أقساط سيارته موديل 2002، ويشكو الأمر، خصوصاً أنّ «السيارة أصبحت قديمة نسبياً، قرّبنا نغيرها ولم ننه تسديد ثمنها بعد، الله يعلم كيف أؤمن البنزين اليومي لها»، رغم كلّ ذلك «مش مهم، المهم أني أقود سيّارة مرتبة».
ومايا (27 عاماً) التي تتذمر كثيراً من اضطرارها للاستيقاظ باكراً كلّ يوم، تعود فتؤكد: «مضطرة، لن أخرج إلى عملي من دونmake up ولو اضطررت إلى حذف ساعة نوم من يوميّاتي».
هذه النماذج ليست إلا عينة عن فئة من اللبنانيين رضعت مع الحليب حبّ الأناقة ورغبة العيش برفاهية تتجاوز إمكاناتهم... ولو كان ثمنها أحياناً خلافات عائلية، محرّكها الغيرة كما حالة نور (15 عاماً) التي لا تكف عن انتقاد ابنة خالها. الأخيرة تصغرها بعامين، وتشتعل غيظاً منها كلمّا اشترت جديداً «كل ما جبت شي بصير بدها مثله».
حلّ مشكلة مماثلة وجدته نورا (30 عاماً). لم يكن الاقتناع بما لديها أو التعالي عن مظاهر لا تضيف شيئاً إلى قيمتها كفرد في المجتمع... «أستعير الثياب». تشرح: «الأهم كيف ينظر إليك الناس، النظرة التي ترفع إلى السماء أو تُنزل إلى سابع أرض، والأمر يعتمد على المظهر الخارجي في أغلب الأحيان، نحن حلّلنا المعضلة، في حيّنا قانون الإعارة هو السائد».

نقد ذاتي

تتعزز هذه الصورة خلال القيام بنزهة في شوارع العاصمة التجارية، عبارات تتكرر: «هذا المحل بشع، ليك الواجهة شو Vulgarولَوْ». في نزهة التسوّق تلك، فتاة تؤنّب والدتها «مامي لا تضعي الأغراض في هذا الكيس المجعلك، ضعيها في كيس patchi».
الملاحظة الأهم اتفاق الفتيات على توحيد المظهر، المحفظة معلقة على المعصم والخلوي ينتقل من يد إلى أخرى، والحذاء بكعب عال، هذا إذا ما استُثني حجم الشفاه والثديان المتقاربان. مشهد الفتيات المتمايلات يخرقه شاب بنظرته الساخرة، وكيف لا فهو يركب «سيّارة بتسطل!» كما تصفها الصبايا، اللواتي بتن ينافسن الشباب حتى بامتلاك السيارات الجميلة.
هنا لا يغيب النقد الذاتي، وتعترف رنا (23 عاماً) «للأسف نحن لا نفعل ما يريحنا بل ما يريح عيون الآخرين الذين لا يكفّون عن الانتقاد همساً وعلانيةًً، أنا أضطر لاقتراض مصروفي من والدي بعد منتصف الشهر، كيف لا، فنصف مرتبي مخصص لشراء الحلى والثياب وأدوات الزينة، لا أستطيع أن أقلع عن هذه العادة وإلاّ سأسير عكس التيار».

للأجانب رأيهم... الإيجابي

خارج نطاق اعتزاز اللبنانيين بأنفسهم، للشعوب الأخرى نظرتها الخاصة. تقول «سامانا» (35 عاماً) السيرلنكية الجنسية بعربيتها المكسرة «أعمل في لبنان منذ أعوام، أصبحت كاللبنانيين أشتري الثياب وأهتم بمظهري، أؤكد أن للأمر تأثيراً كبيراً على النفسية».
أمّا «فيغارو» اللبناني من والدة إيطالية فهو يعتقد أن اهتمام اللبنانيين بالشكليات يمثل نقطة ضعف لديه، لافتاً إلى أن والدته «أصبحت كاللبنانيين وتطبّعت مع أطباعهم، إذ هويت التبضّع وأتقنت فن المجاملة».
محمد (30 عاماً) مصريّ، يعمل كمندوب مبيعات في لبنان، وهو يحقق له طموحه، وقد يساعده على تحقيق حلمه بالزواج من لبنانية «يا ناس، يا هو… اللبنانيات يجننو! جمال إيه ورقة إيه؟ أنا عايز واحدة زي باسكال مشعلاني، ده أنا مسميها باسكال مجنناني».
يقارب رأي مَن عاش في لبنان رأي اللبنانيين بأنفسهم، وإن كان من جنسية أخرى، أمّا اللبناني الذي لم يعرف لبنان سوى من أذنه، فله رأي آخر. سمير الذي عاش أعوامه الثمانية والعشرين في أميركا يروي عن اللبنانيين فراغهم وألاعيبهم ورؤيتهم المختلفة للأمور، ولكنّه لا يُخفي ذوقهم الرفيع وحبهم للجمال «شعب بيعقّد بس مضيّع حالو».

تفسير علمي

إذاً لا يختلف اثنان على أن اللبناني يهوى المظاهر ويحترف التباهي بالنفس، فهل من تفسير علمي لهذه الظاهرة أبعد من إطلاق الأحكام الجاهزة؟
ينظر الدكتور في علم الاجتماع عبّاس مكّي إلى موضوع اهتمام اللبنانيين بالمظاهر على مستويين، «الأول مستوى حضاري عالمي في عصر العولمة يتمثل باختصار المكان والزمان في مجتمع استهلاكي حيث الدعاية والإعلان، وما من مجتمع إلاّ وبات يهتم بالاستعراض والمظهر الحضاري (غير البدائي)، لأن مفهوم الاستعراضية معمّم في كلّ البلدان مع اختلاف الكلفة الاقتصادية، علماً بأن اللبناني من أكثر الشعوب التصاقاً بالمظاهر، فكماليات الشعوب الأخرى أولويات بالنسبة إليه».
ويرى مكّي «أن الاستهلاك في كل أوجهه استعراضي، اللباس، الغذاء، السلوك الاجتماعي، والاهتمام بالأمور الجمالية، لتأتي وسائل الإعلام وتؤمن احتياجات المجتمع الاستعراضي عن طريق الدعاية والإعلان لتغذي الاقتصاد المستهلك».
أمّا المستوى الثاني، بحسب تصنيف مكّي، فهو «أكثر التصاقاً بسمات المجتمع اللبناني، فلبنان قائم على التجارة والخدمات والسياحة، واللبناني كسواه في مجتمع الاقتصاد المفتوح ووسائل الاتصال التي لا تتوانى عن خدمة هذا المجتمع بخصائصه المتنوعة».
مكّي تحدث عن العقلية اللبنانية القائلة إن «الغالي هو الأفضل علناً، ولكن ضمناً في الخفاء وتحت الضائقة الاقتصادية يئن الاستعراضي ويذهب نحو الأرخص، ما يفسّر نشوء نوع جديد من التجارة الاستعراضية الرخيصة».
ورأى مكّي أن «هذا إشارة فعلية لمكابرة اللبنانيين على وضعهم الاقتصادي، ما يحدّ من سمة الاستعراض، وتتبلور المشكلة مع القدرة الشرائية الضعيفة والتمسك القوي بالمظاهر». وقدّم مثلاً عن الاستهلاك التجميلي الذي «فتح هوّة كبيرة في التماسك النفسي لهؤلاء الناس، وفتح أيضاً مسارب غير أخلاقية وغير منسجمة مع سلّم القيم أدخل في إطار السياحة». من وجهة نظر مكّي «لقد تحوّل اللبناني من باحث عن السلعة إلى سلعة بحد ذاته، هو الآن يَستعرِض ويُستعرض، يتظاهر ويتحوّل إلى جزء من هذة المظاهر لغيره».
وفي هذا الإطار، يلحظ مكي مسألتين نفسيتين، الأولى نفسية بحتة وفحواها «أن من يستعرض ويتفاخر بالمظاهر يعاني خواءً داخلياً، فيحاول أن يعوّض عن الكينونة بالمظاهر، ما يسمّى في التحليل النفسي بصورة الذات الضعيفة التي يُلبسها الفرد زياً جديداً، وهنا تكمن سيكولوجية الجمال التي تتمظهر بالعمليات الجراحية التجميلية».
أمّا المسألة الثانية فهي «نفس اجتماعية»، بحيث يقوم «من لديه القدرة الشرائية بالاستهلاك، ومن لا يملكها يتظاهر بذلك». يضاف إلى ذلك أن «اللبناني بسلوكه، هو جزء من أزمة نفسية اقتصادية، فمع فشل الزراعة والصناعة، يجد اللبناني نفسه غارقاً في القطاع الثالث، التجارة والخدمات، ليتماهى في هذا القطاع، وتتحوّل القطاعات الأخرى بدورها إلى استعراض، فالصناعة كما الزراعة، استعراض في زمن اقتصاد السوق».
لم يخفِ مكّي أن ذلك يخلّف «أزمة تربوية أخلاقية»، لافتاً إلى وجود تيارين في لبنان «الأوّل نابع من بنية ذاتية ضابطة تأخد الخلفية الدينية لقيم السلوك من الناحيتين التربوية والأخلاقية، حيث تسود مفاهيم الحلال والحرام والاحتشام في المظهر والسلوك، مع تفسير خاص للعلاقة بالجسد والعلاقة بالآخر، ولكن وفي الوقت ذاته تجرّنا القيم الاقتصادية في اتجاه آخر، حيث يتحوّل المستهلك إلى سلعة للاستهلاك، ومجتمع الاستهلاك كافر غير مؤمن، بمعنى أن الاستهلاك ومجاراة السوق يحلان أولاً وأخيراً مهما كان الثمن». خالصاً إلى أن «القيم الاستهلاكية تضغط على القيم الدينية والاجتماعية، لا سيما في أوساط الشباب»، وربط ذلك بتعدد الثقافات والانتماءات وضياع لبنان بين الثقافة الشرقية (القيم الدينية) والثقافة الغربية القائلة بالانفتاح.


«نتديّن لنتزيّن»

كانت ضريبة «البرستيج» باهظة بالنسبة لريما (45 عاماً). تروي واقعها بسخرية وابتسامة يزيّنها الندم. بدأت القصة قبل 26 عاماً، عندما تزوجت اشترت ثياباً بالدين، فُتح الدفتر ولا يزال. باعت «صيغتها» لتلبي دعوات الأصدقاء للسهر، واقترضت مراراً بهدف تصفيف شعرها. «إما أن أكون على الدقة ونص أو بلا الضهرة من أساسها». تقول متذرّعة بعبارة «العالم ما بترحم، إذا بدّك تكوني معهم عليك أن تكوني مثلهم أو لا تكوني أبداً». ريما لا تنسى الأموال التى دفعتها للمدارس الخاصة والمدرّسات الخصوصيات، علماً بأن ذلك لم يأتِ بعد دراسة معمّقة لوضع أبنائها الثلاثة الدراسي وحاجتهم فعلاً لدروس خصوصية. تنظر مقطّبة حاجبيها بمحاولة لإنهاء عملية حسابية نتيجتها «أنا صرفت 90 مليون ليرة تعويض نهاية خدمة زوجي على المظاهر، ولم يستغرق الأمر سوى عامين».
تعلو ضحكة ريما الساخرة، وباعتزاز تروح تعدّ المشتريات: «3500 دولار ثمن مكنسة كهربائية، 5000 دولار ثمن صالون وغرفة طعام و 8000 دولار تجهيز المطبخ». تلتقط أنفاسها وتشرح بنبرة عالية «ما أنا ثمن مكواتي 1400 دولار، لقد قبلت أن أدفع 500 دولار لتزيين خزانة الزجاجيات» تبرم بيديها وتتمتم «ماذا سأقول؟». تستجمع أفكارها وتكمل «كلّه هيّن عندما زوّجت ابني، استدنت من ثلاثة بنوك ووصل الدين حتى الـ17000 دولار، وكل ذلك لإتمام عرس ناجح وسهرة تليق بالمدعوين، ويا ريت عجبهن!». الحياة لا تنتهي لدى ريما، فأملها كبير باستمرارية ناجحة «مثل ما عشت 26 سنة دين بكمل الأعوام المقبلة». تلطم بكفها على جبينها، يبدو أنها نسيت أمراً مهماً «كدت أنسى أقساط السيارة التي لم أنهِ تسديدها حتى الآن، 20 ألف دولار ما بيندفعوا بالسهل، بيناتنا سيارة موديل السنة تستأهل». يقاطع حديث ريما نباح كلب، تضحك «ييي لم أُخبرك عن «راكس»، حساب الكلب على حدة». تلاعبه وتكمل ممازحة «بعد ناقص الخادمة وهنا تنتهي أحلامي». وبعد الضحك والسخرية تنهي ريما وبأسلوب جاد ولهجة حازمة «مجتمعنا هكذا، لست الوحيدة في هذا الخندق، كل الناس متل بعضها، نحنا بلبنان نتديّن لنتزيّن».