جان عزيززيارة رايس أمس، قد تؤزّم الوضع أكثر، وقد تؤخّر تأليف حكومة العهد الأولى، أكثر مما تأخّر حتى الآن. هكذا يلخّص مصدر سياسي واسع الاطلاع، قراءته لما سيلي. أما السبب فمزدوج بحسب رأيه:
من جهة أولى هناك عودة الصراع الأميركي ــــ السوري، بعد استثارة واشنطن نتيجة المواقف الأوروبية والإسرائيلية المنفتحة على دمشق. ومن جهة ثانية هناك استماتة البعض في الداخل، لتنفيذ مخطط خاص بالانتخابات النيابية المقبلة.
في الشق الأول والخارجي، يرسم المصدر صورة متشنّجة للعلاقات السورية ــــ الأميركية حول لبنان. يقول: ليس صحيحاً أن اتفاق الدوحة شكّل مسار تطابق بين الطرفين حول الوضع في بيروت. لا بل بكل بساطة، كانت تلك اللحظة نوعاً من الوقت المستقطع:
انفجر الوضع عسكرياً في بيروت. توتّر السعوديون ومعسكرهم في المنطقة. فتدخلت طهران. طمأنت الرياض إلى أن ما يحصل محدود في الزمان والمكان. ثم تدخلت لدى دمشق لضمان معالجة ما. كانت الدوحة جاهزة، فخطفت التمريرة وسجلت انتخاباً رئاسياً.
بعد 21 أيار الماضي، تاريخ توقيع الاتفاق، يتابع المصدر السياسي، لبثت دمشق على إيجابيتها، تراقب تطور الأمور. غير أن رصدها لما توالى من خطوات ومواقف، لم يلحظ ما كانت تتوقعه وتأمله من إيجابيات. فالعزلة الأوروبية على سوريا ظلت قائمة، حتى إن الخرق الفرنسي الوحيد المسجّل، جاء في إطار دعوة دمشق إلى مناسبة متوسطية، وهي دعوة ما كان ممكناً تجنّبها.
ومع ذلك قوبلت الخطوة الفرنسية باحتجاج أميركي جدّي ومثابر. من جهة ثانية، كان التحفّظ الأميركي حيال الخطوة الإسرائيلية مماثلاً في مطاردته للارتياح السوري.
ولم يلبث هذا التحفظ أن أُتبع بدفع محمد البرادعي إلى المجيء بوكالته «التفتيشية» إلى دمشق، كإنذار أميركي مباشر أوّلاً، وكتحريض لإسرائيل ثانياً.
حتى على المستوى العربي ـــــ العربي، يقول المصدر نفسه، فإن الضغوط الأميركية استمرت على سوريا. فحيل دون أي تقارب بين دمشق والرياض، وطُلب من حسني مبارك عدم المشاركة حتى في القمة العربية المصغّرة في ليبيا. في إشارة إلى استمرار حظر عرب واشنطن على النظام السوري.
أما في الداخل، فلم تلبث مؤشرات التصعيد الأميركي أن توالت، حتى بدا أن ثمة من يأمل بالانقلاب في السياسة على اتفاق الدوحة، وبالانقلاب لاحقاً على الأرض، على الموازين الفعلية التي سمحت بولادة ذلك الاتفاق: عاد السنيورة إلى السرايا، بتدخل أميركي مباشر لدى فريقه، فكان إنذار أوّل.
تصاعد الحديث عن عودة إلياس المر إلى اليرزة، وسط زيارة إدلمان وكلام التجهيز والتنسيق، فكان إنذار ثانٍ. أعلن الرئيس المنتخب خطاب قسمه، وفيه ما فيه من كلام متوازن عن العلاقات اللبنانية ــــ السورية، فسارعت واشنطن وفريقها اللبناني إلى تأويله واستخدامه في شكل تحريضي واستفزازي. فكان إنذارٌ آخر وآخر.
هكذا، يؤكد المصدر المطّلع، وجدت دمشق نفسها في موقع «المبلوف». فهي سهّلت خطوة الدوحة وانتخاب الرئيس، على قاعدة التكافؤ والتوازي. فإذا ببوادر التنفيذ تشير إلى محاولة استعمال ما تحقق لإخراج طرف وإحكام سيطرة طرف آخر.
ولم يكن ينقص مسلسل التشدد الأميركي الطويل هذا، إلا عودة التوتيرات الأمنية في مناطق لبنانية حسّاسة سورياً، وخصوصاً في حيّز الانتشار السنّي بقاعاً، إضافة إلى التشدد الموازي والمقابل في تأليف الحكومة.
زيارة رايس جاءت لتتوّج هذا المسعى، يقول المصدر السياسي نفسه. وبالتالي فالأمور قد تتجه خارجياً إلى عودة التأزيم، في ظل رغبة داخلية جامحة لدى جماعة واشنطن في بيروت في تأجيج الوضع واستخدامه كجزء من «عدة الشغل» تمهيداً لاستحقاقهم الوجودي المقبل، مع الانتخابات النيابية سنة 2009.
هل قضي الأمر إذاً وعادت الأمور إلى العرقلة؟ يجيب المصدر المطّلع: المسألة متوقّفة إلى حد كبير، على الدور الذي يمكن أن يؤدّيه رئيس الجمهورية، والذي تشير كل المعطيات إلى قدرته عليه. فالعهد الجديد عند مفصل أساسي له: فإما مبادرة بعبدا إلى حركة متوازنة داخلياً وخارجياً، تقدم الضمانات والتطمينات للجميع، بما يسمح للعهد بأداء دور إنهاء الأزمة، وإما نجاح أخصام العهد من العازمين على خنقه احتضاناً، في جعله عهد إلياس سركيس آخر، يكتفي بإدارة الأزمة.
في السياسة اللبنانية، يختم المصدر، بواطن الأمور أكثر صدقاً من ظواهرها، والحقيقي من المواقف يكمن في المضمر أكثر من المعلن، وفي المستور، لا في المكشوف.