شهد الجبل انتعاشاً بعد التدخل السوري وتأثيراته المباشرة على طرابلس. فقد انتشرت فيه الورش والمصانع الصغيرة، بعدما كان جلّ سكانه يمارسون المهن الصغيرة أو أعمالاً بسيطة. وقبل الحرب الأهلية عام 1975 كان بعض العلويين يتحوّلون إلى المذهب الشيعي للحصول على وظيفة عامة. أما في ظل السيطرة السورية، فقد عرفت المنطقة نوعاً من الدعم السياسي بعد عقود من الحرمان الاجتماعي. وقد أدى هذا الوضع إلى تأثر جبل محسن بالداخل السوري وتناقضاته.
ويذكر هنا انتقال رفعت الأسد إلى لبنان بعد خلافه مع شقيقه الرئيس حافظ الأسد، ساعياً إلى تأسيس حالة تنظيمية وشعبية أدت إلى نشوء الحزب العربي الديموقراطي، الذي رأسه المحامي علي عيد، الناشط السياسي وذو التاريخ الطويل في الدفاع عن حقوق العلويين. كذلك شكّل الحزب ذراعاً عسكرية له في طرابلس تحت اسم «الفرسان الحمر».
أما عند الجنوب من شارع سوريا، فيمتد أفقر الأحياء في لبنان، باب التبانة، الذي تنتشر فيه البطالة والتهميش الاجتماعي، إضافة إلى كونه محطة للوافدين من الأرياف إلى طرابلس هرباً من العوز، فتحول إلى بيئة معرضة للتوترات الاجتماعية التي تزدهر في مناخ الفقر.
ولمع في السبعينيات نجم الصحافي علي عكاوي الذي كان محرراً في دار الصياد، «ولأن المهنة لم تفد بؤس التبانة وأهلها»، أسس مع آخرين تنظيم «الثائرون الخمسة»، الذي انتهج العنف الثوري سبيلاً لتغيير الواقع. ولكن سرعان ما قضى عكاوي في زنزانته بسجن القبة يوم 15 حزيران 1973، بعدما قاد حركة احتجاج داخل السجن. وقيل وقتها إن المكتب الثاني دسّ له السّم في الطعام.
عقب موت علي عكاوي المدوي، التفت المجموعة حول شقيقه الأصغر خليل (أبو عربي)، الذي يعتبره مؤيدوه «أسطورة نضالية» تُوجت باغتياله في 9 شباط 1986. وقد تحوّل أبو عربي من الماركسية إلى الإسلام السياسي، معتبراً أن الإسلام هو حقيقة ثابتة لا يمكن القفز فوقها عند محاولة التغيير. فأسس لجان المساجد والأحياء لتأمين متطلبات عيشها وصمودها. وسعى جاهداً لتأكيد الالتزام بالثورة الفلسطينية كقضية مركزية، مما جعل العداء مستحكماً بينه وبين الجار الأقرب، الموالي لسوريا: جبل محسن. فخيضت أشرس المعارك بين حركة أبو عربي و«الفرسان الحمر» طوال الفترة الممتدة من 1983، تاريخ انتقال ياسر عرفات من بيروت إلى طرابلس، وحتى 1986 حين أحكم السوريون قبضتهم على المدينة، فنكلوا بمناصري أبو عربي في التبانة وساقوا الآلاف منهم إلى السجون.
ويقول متابعون لحركة أبو عربي إن الأخير وجد صعوبة في إقناع أنصاره بتوجهاته الإسلامية التي كانت تفرض عليه نمطاً سياسياً معيناً، إلى جانب انضوائه لحركة التوحيد الإسلامي، وعلى رأسها الشيخ سعيد شعبان. إذ إن التبانة تاريخياً كانت قريبة من التوجه القومي والناصري أو اليسار «المتحرر»، وبالتالي كان أهلها يرفضون مظاهر التعصب الديني.
وفي الأحداث الأخيرة، عندما اندلعت الاشتباكات بين جبل محسن والتبانة، لم يدر من أراد الثأر لدم أبو عربي من مقاتلي التبانة، أن الرجل تأثر بالثورة الإيرانية منذ 1979 وأرادها مثالاً أعلى، من خلال الجمع بين أساليب التحريض الشيوعية والأصولية الدينية، والخروج من صراع الأزقّة إلى رحاب اعتناق القضية الفلسطينية حصراً. كذلك غاب عن هؤلاء المقاتلين الشبان أن خليل عكاوي كان يشارك في مؤتمر سياسي في إيران قبيل عودته وموته عند طلعة أبي سمراء في طرابلس.
ومن رافقه في تلك المرحلة يؤكد أن الرجل وقع ضحية تناقضات الصراعات المتنقلة على أكثر من ساحة إقليمية، جعلت من أحلامه موجة سرعان ما تكسرت على صخور واقع التبانة الأليم.
أراد المقاتلون الصغار، إذاً، استعادة التاريخ، رغم أنهم لم يخبروا تجربة أبو عربي القائمة على العنف، فهبوا للقتال والانتقام من النموذج السوري المتمثل بجبل محسن.
في ضوء ما تقدم، يظهر أن الجغرافيا السياسية في التبانة غالباً تأثرت بأوضاع تتجاوز موقعها قرب عاصمة الشمال، إلى عين العواصف السياسية. ومن البديهي والحالة هذه أن تكون الصورة وعكسها على مساحة جغرافية لا تقل عن ثلاثة كيلومترات مربعة. وتفيد إحدى الشخصيات في التبانة بأن أغلب المقاتلين الجدد في المعركة المحدودة مع جبل محسن ليسوا من أنصار تيار المستقبل في المطلق، بل إن أشرس هؤلاء ينتمون إلى خط معارض للتيار، سارع أركانه لاحتوائهم، على اعتبار أن الفتنة إذا ضربت المنطقتين فإنها ستجر الويلات على كل أحياء طرابلس والميناء، ويتعمم بؤس التبانة على الجميع.
وللتبانة منطق مختلف حيال العلاقة مع السياسيين، فلا أحد يملك الشارع، ولم تكن المعركة الأخيرة سوى جرح قديم تحرك مجدداً، في ظل غياب المصالحة الفعلية وعدم دفع التعويضات المستحقة من صندوق المهجرين لأصحابها.
ويحاول سياسيو طرابلس جرّ أكبر عدد ممكن من سكان التبانة تحت عباءتهم، إذ إن هذه المنطقة تحوي ما يقارب 50 ألف ناخب. ومع هذا فإن المفارقة تتجلى في غياب المكاتب السياسية والخدماتية عنها، رغم كثافة انتشارها وتنوع تقديماتها في باقي أنحاء طرابلس، وصولاً نحو عكار من خلال مكاتب «الواجهة» ولزوم ما لا يلزم. وأضحى من المعلوم أن الطبقة السياسية تفضّل عدم تنظيم أوضاع البيت الداخلي وحلّ المشاكل الأساسية، وذلك عبر اعتمادها سياسة التعامل «بالمفرّق» مع هذا الخزان البشري. وغالباً ما يأتي هذا التحول نحو زعيم من السياسي العام ذاته، وخاصة عند قوى الموالاة، فالموالاة صاحبة الخدمات الكبرى والأقرب إلى قلوب أهل التبانة، مع تسجيل خرق آخذ في الانتشار يمثله تيار الرئيس ميقاتي عبر شبكة خدمات واسعة من خلال بعض الفاعليات والشخصيات المعروفة.


مثقفون وثوار

تحولت حركة علي عكاوي إلى حالة نضالية، وهو الشاب الذي بدأ حياته صحافياً يرتدي ربطة العنق ويسير نحو عمله في أزقة لا يعرف أطفالها الأحذية في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي. ومشى في ركاب حركة علي عكاوي نخبة من «اليساريين التقدميين» الذين استوطنوا باب التبانة، ومنهم الباحث الفرنسي ميشال سورا والأستاذ الجامعي روجيه نبعه، إلى جانب الروائي إلياس خوري والأنتروبولوجي سهيل القش والباحثة والقائدة اليسارية من منظمة العمل الشيوعي آنذاك نهلا الشهال والمسرحي روجيه عساف، فضلاً عن عدد من المثقفين البارزين من أركان الماوية في لبنان ذلك الحين.


هدير المنسيين

لم يمنح الاكتظاظ السكاني الرهيب في التبانة، القاطنين أي سبب فعلي لعدم التشنج، ولا يبدو أن هدير الفقراء السنّة يتجه إلى الخفوت. فهؤلاء «المنسيون» ارتأى قسم منهم الارتماء في أحضان التيارات السلفية المتنامية على أنقاض اليأس والإخفاقات الداخلية والعربية، بدءاً من النهج الانهزامي الذي تسلكه الأنظمة العربية في وجه إسرائيل، والمشاريع الأميركية للمنطقة، وصولاً إلى معارك بيروت وتبيّن عدم قدرة تيار المستقبل على «الدفاع عن كرامة أهل السنة ووجودهم الحيوي». فهؤلاء الشباب الذين قذفتهم غرفهم الضيقة باكراً إلى الشوارع ليسترزقوا عبر عربة خضر وغيرها من وجوه العمل القاسي، جمعوا بين الالتزام الديني والتطرف، مثلما تختلط مياه شربهم بشبكة الصرف الصحي، مما أوجد حالة من العسكرة الدينية، من «قبضاي الحارة وحارسها» إلى المؤمن المتمّم لواجباته الدينية وفروضه الشرعية.