عوارض أفقدت الأطفال القدرة على الضبط الذاتي والتحكّم بردود أفعالهم
راجانا حميّة
كشفت حرب مخيّم نهر البارد الأخيرة النقاب عن حياة أطفال لم تعد على ما يرام، حياة تغزوها في أكثر اللحظات هدوءاً ومضات الخوف والكآبة والإحباط والعنف والعدائيّة، لتحوّل ما تبقّى في ذاكرة هؤلاء الفتيّة إلى أشلاء صراع جديد مع الذات المقبلة على خسارة الثقة وكلّ ما يساعدها على تحمّل النزوح من مكان إقامتها في الشتات.
في هذا المكان، الذي كان اسمه نهر البارد، يعاني الأطفال حربين، واحدة بدأت في معركة أيّار العام الماضي ولم ينته نزوحها إلى الآن، وثانية تشتعل في دواخلهم ضمن معركة نفسيّة لن يجدوا مفرّاً من عيشها سنوات إضافيّة، كما ورد في الدراسة الأخيرة التي أجرتها «جمعيّة عمل تنموي بلا حدود ــــ نبع» عن «الآثار النفسيّة للحرب على الأطفال الفلسطينيين في مخيّم نهر البارد»، وأطلقت نتائجها، أمس، في فندق «كراون بلازا».
في هذه الدراسة، لم يكن هناك من مفرّ من عيش الحرب وتداعياتها مجدّداً، ففي تعليق أوّلي على نتائج سمات الشخصيّة الجديدة لأطفال البارد بعد المعركة، أمكن لمعدّي الدراسة الحكم أنّ «صورة الأطفال النازحين لا تبدو زاهية بأيّة حال، يسيطر عليها «الصمت والوجوم والتجهّم، ورغبة جامحة بالرجوع إلى المخيّم والعيش داخل خيمة فوق ركامه».
وقد استطاعت الجمعيّة رصد الصورة عقب أربعين يوماً من انتهاء الحرب، واكتشفت من خلالها أنّ الأطفال يعانون اضطرابات نفسيّة ونفس ــــ جسديّة وسلوكيّة، إضافة إلى معاناة الحرب. وأكّدت، استناداً إلى الاستمارات، أنّ شخصيّة الأطفال النازحين «عصبيّة على الدوام، لا تستقرّ على حال، دائمة الشعور بالخوف والعدوانيّة في علاقتها مع ذاتها ومع الآخرين أيضاً».
أما تفاصيل تلك الشخصيّة، فقد فوجئ معدّو الدراسة بأنّ تكوينها لم يكن وليد الحرب فقط، ولكن ما كان جديداً أنّ قوّة الصدمة جرّدتها، لتظهر جليّة في سلوك الأطفال وطباعهم. وتميّزت، في هذا الإطار، الشخصيّة بخمسة أنماط من المشاعر: الخوف والقلق، السلوك النكوصي (التعلّق المفرط بالأهل...)، التعبيرات الذهنيّة والجسديّة عن الألم النفسي، والسلوك العنفي اللا اجتماعي. وفي الإطار الأوّل، يعيش الأطفال مشاعر الخوف من الحرب (83.6%)، ومن المرض (78.8%)، وكلا هذين الطرفين ينتجهما الخوف المستمر (63.4%) الذي اعتادوه في حياتهم المشتّتة. وتنتج عن هذه المشاعر، سلسلة إضافيّة تتجلّى بالخوف من الآخرين (58%)، الذي يضطرّهم إلى طلب الحماية من الأهل والحاجة إلى مرافقة الكبار بنسبة (68.3%)، وإن كانت تلك المرافقة هي بحدّ ذاتها مدعاة للخوف نظراً للانعكاسات النفسيّة لمشكلات الكبار عليهم وخطر فقدان الأطفال استقلاليّتهم.
وفي ما يخصّ السمة الثانية، التي تحكم غالبيّة الأطفال النازحين، برز التوتّر المفرط بنسبة (77.8%)، بحيث يبدي نصف الأطفال قلقهم الدائم (50,5%)، من دون أن يكون لهذا القلق موضوع محدّد. ويعبّر هذا القلق عن نفسه بأشكال عدة قد تكون الأرق الدائم (27%) أو الكوابيس (25.5%)، والتي منها تتولّد شخصيّة يغزوها الإفراط الحركي (86%) والإطناب والإسهاب الكلامي (72.7%). هذه العوارض التي أنتجتها الحرب، أفقدت الأطفال القدرة على الضبط الذاتي والتحكّم بردود أفعالهم، وأعادت إليهم التثبّت الطفولي اللاواعي على مراحل سابقة من النمو، حيث كانت تجارب العيش أقلّ مرارة، الأمر الذي ولّد حاجة ملحّة لأهاليهم وعدم الافتراق عنهم (89.7%).
وعند السمة الثالثة، تبدأ ملامح الشخصيّة الجديدة بالتبلور أكثر، تحدّدها سوداويّة المزاج التي توزّعت ما بين الحزن والاكتئاب (42.3%)، وما يرافقهما من عدم القدرة على الضبط العاطفي، فيبكي الأطفال من دون سبب محدّد (36.7%) ويفقدون المتعة بكلّ شيء (46.8%) ويعيشون التشاؤم بنسبة (37.1%) وخصوصاً لدى الذكور من الأعمار المتقدّمة.
وأمام هذا الواقع، يجد الأطفال أنفسهم في مواجهة حلٍّ واحد: ترك ما يجري حولهم والتقوقع على الذات، ويتبلور هذا الأمر بشكل كبير لدى الفتيات من الشريحة العمريّة (10 ـــ 13 عاماً). وهنا أيضاً، تبرز المازوشيّة في أعلى درجاتها، حين يعرب الأطفال عن أنّهم غير مرغوبين من الآخرين (22.1%) وعديمو القيمة (16.1%)، وخصوصاً لدى الإناث بين 10 و18 عاماً.
ولكلّ هذه الأسباب، يسعى الأطفال إلى إعادة ترميم الأنا والحفاظ على تماسكها عبر اللجوء إلى العنف الذي يتجلّى في أشكال عدة، منها السخرية (30%) والشتيمة (45.1%) والعراك (57%). وبعيداً من النتائج، اقترح معدّو الدراسة العمل على نوعين من التوصيات قد تخفّف الأثر، ومنها الملحّة التي تتعلّق بالعمل على إعادة إعمار المخيّم، وعودة الأطفال النازحين إليه، وإنشاء مراكز متخصّصة في تقديم المساعدة النفسية للأطفال الذين يعانون اضطرابات. وعلى صعيد التوصيات العامّة، طرح المعدّون فكرة تطبيق اتفاقية الدار البيضاء والتصديق على اتفاقية حقوق الطفل في ما يختصّ بالحقوق المدنية، إضافة إلى العمل على توفير الخدمات في أحياء المخيمات ومضاعفة الجهود من الدولة اللبنانية والأونروا والمجتمع الدولي، كل في نطاق عمله، من أجل دعم الجهات العاملة مع الأطفال الفلسطينيين.
يُذكر أنّ العمل على الدراسة بدأ منتصف آب واستمرّ إلى تشرين الأوّل من العام الماضي، وقد اعتمد المعدّون على اختيار عيّنة عشوائيّة من داخل المخيّم ومن خارجه بلغت 293 طفلاً، موزعين مناصفة بين من هم في عمر 9 سنوات وما دون، ومن هم ضمن الشريحة العمرية 10 و18 سنة. وفي ما يخصّ الاستمارات، فقد حُضّر نوعان منها، الأولى موجهة إلى الأطفال الذين يقعون ضمن الشريحة العمرية 10 إلى 16 سنة، فيما توجّهت الثانية إلى أهالي الأطفال الذين هم دون 9 سنوات.