جالية إيطالية» في الشيّاح؟ يمكن افتراض هذا الأمر بسبب حالة الحماسة التي تسيطر على الحيّ منذ انطلاق مباريات كأس أوروبا. الحيّ يشبه أحياءً كثيرة في لبنان، ألمانية وبرازيلية وغيرها، لكنه لا يشبه الشياح التي يتوافق فيها التشجيع والتزريك مع روح رياضية
أحمد محسن

يجتمع المشّجعون في البيوت بأعداد تتخطى العشرين شخصاً في بعض الأحيان، كما يحصل في «حي بيت فرحات» المتفرّع من شارع حسن كنج الرئيسي في الشياح. ترتفع الأصوات مع كلّ «هجمة» على مرمى الخصم. يلبس بعض الشبّان قمصان اللاعبين بزهوٍ، ويفتخرون بـ«الولاء المطلق» للفريق الإيطالي. المشهد لا يكذّبهم أبداً: ترتفع في الخارج على طريق أسعد الأسعد العام أعلام إيطالية عملاقة، يتجاوز طول بعضها خمسة أمتار، وتزين صور اللاعبين الجدران العتيقة في الداخل.
في أحد هذه المنازل يقطن علي جعفر (39عاماً) الذي يصف نفسه بالمشّجع العريق، ويشرح بلهجة لا تخلو من الفخر شعوره يوم فازت إيطاليا بكأس العالم عام 1982، «أذكر تفاصيل المونديال أكثر مما أذكر لحظات الاجتياح الإسرائيلي»، لكنه يشرح على سبيل المزاح أن «الوضع في تموز 2006 كان مختلفاً»، ويسخر كثيراً من أولئك الذين يربطون بين توقيت فوز إيطاليا والحروب الإسرائيلية على لبنان، وتزداد سخريته لتطال الذين يربطون كرة القدم بالسياسة، بل يفضّل ربطها بالموسيقى والسينما، مشيراً إلى أن فيلم «العرّاب» أو The Godfather هو الذي دفعه إلى تشجيع إيطاليا أكثر من أي شيء آخرتتشابه الأجواء إلى حد كبير في البيوت المجاورة، لكن الحديث يأخذ طابعاً كروياً بحتاً: ثلاثة شبان لا يرغبون بالحديث إلا عن أشياء تتعلق بأداء فريقهم، فلا أحد منهم يهتم بالشؤون الأخرى، رغم وجود صورة كبيرة للسيد حسن نصر الله في غرفة الجلوس، إلى جانب صور «نجوم الكالتشيو». تبدأ العبارات: «على دونادوني أن يستقيل»، «دونادوني غشيم»، «لقد أذلّنا» وتتوالى التعليقات القاسية بحق المدرّب الإيطالي الذي لا يعرف على الأرجح بوجود مشّجعين في الشيّاح متحمسين أكثر من أولئك الموجودين على الرقعة الإيطالية.
المشّجعون الغاضبون من خسارة فريقهم مباراته الأولى يصبّون غضبهم في كلّ الاتجاهات، فتطال اتهاماتهم الجميع، حتى معلّق القناة الرياضية التي تنقل البطولة مباشرةً على الهواء. يطلب حسن (21 عاماً) أن نذكر اسم المعلّق «لأنه منحاز، لقد استفز ملايين الناس بعدم مصداقيته». عصبية حسن ليست السبب الوحيد الذي يدفعه إلى انتقاد المعلّق، فأحمد (24 عاماً) الذي يمتاز بشخصية هادئة يؤكد الأمر «المعلّق للفريقين وليس ضد إيطاليا»، ثم يسحب علماً صغيراً من درج أمامه، يرفعه كما يرفع حكم الراية حين يعلن عن حالة تسلل، ويتابع قائلاً «العالم كله قال إن الهدف تسلّل إلا المعلق». الشاب الأخير يرفض التعليق، لا يحب الصحافة والصحافيين، لكن إذا كان من شيء يوّد قوله فهو «أنه سئم الوضع السياسي في لبنان، وكأس الأمم الأوروبية جاءت من غيمة» كما يحلو له نعتها.
الشيّاح ذائع الصيت بين أحياء الضواحي الأخرى، وهو متهم دائم بكثرة «المشاكل» التي تحصل في أزقته، وفي هذا الإطار، من الطبيعي أن تحصل بعض المشادّات بين الشبّان على خلفية تشجيعهم الفرق المختلفة، لكن الأمر مختلف ببساطة هذا العام. الأحداث الصاخبة أرهقت الشبّان، ومنحتهم الروح الرياضية الكافية لتقّبل «النتائج». في أحد «الزواريب» يوضع تلفاز عملاق، ويجلس الشبّان جنباً إلى جنب، يشاهدون المباريات ولا يسيطر إلا المزاح على الأجواء.
يقول زين دمشق (25 عاماً) «خفّت حدّة الاهتمام بسبب الأوضاع»، لكنه يشرح أن الشيّاح ليس كما يقولون، مشيراً إلى أن وجود عدد كبير من «الطليان والألمان» يمثّل دليلاً واضحاً على عفوية الشبّان هناك وما وصفه بـ«الانفتاح على العالم»، بيد أنه يصرّ على أن «الشيّاح إيطالي» مطلقاً ضحكةً مجلجلةلكن إيطاليا ليست الوحيدة في شوارع الشياح. الاتحاد الأوروبي حاضر بثقله في الضواحي، وثمة من يعترضون على وشم المنطقة بالصبغة الإيطالية، رغم أنهم لا ينكرون كثرة عدد «الطليان»، حسب ما يقول عادل (26 عاماً). مازن يلعب في أحد الفرق اللبنانية في مصاف الدرجة الأولى، لكنه لم يرغب بذكر اسمه كاملاً أو حتى اسم فريقه، بل قال ممازحاً «فريقي الآن ألمانيا»، ثم أشار بيده إلى شرفة منزله حيث يرفرف علم للجمهورية الاتحادية الألمانية، أي قبل انهيار جدار برلين، فيستقر النسر في منتصفه في إشارة واضحة إلى أن عادل ورث العلم عن أبيه، كما ورث تشجيع المنتخب الألماني أيضاً. العلم يغرّد وحيداً بين مجموعة من الأعلام الإيطالية العملاقة، وسط حضور خجول لفرنسا وهولندا.
«الإيطاليون ديموقراطيون» يقول مازن (19 عاماً) بسخرية لاذعة، ويشير بإصبعه إلى الشرفات القريبة. «إيطاليا في كلّ مكان، رغم ذلك نسمح لهم بالتشجيع كي نضفي جواً من المنافسة» ويخرج لسانه من فمه في حركة عفوية، باتجاه صديقه الألماني الذي يمتعض من «غرور الإيطاليين»، فيشهر ثلاثة أصابع في وجهه، في إشارة إلى خسارة الفريق الإيطالي مباراته الأولى أمام هولندا بثلاثية نظيفة.
هكذا تعايش «التزريك» مع الهدوء، ويمكن القول إن أحداث 27 كانون الثاني 2008 لعبت دورها في هذا الإطار. علي (20 عاماً) فقد أحد أقرب أصدقائه في الأحد الأسود، ورفض ذكر اسم صديقه الشهيد، كي لا يسيء إلى ذكراه بطريقة أو بأخرى. يصمت طويلاً ويبدأ بسرد شريط طويل من «الذكريات الكروية» التي تبدأ بمتابعة مباريات المنتخب الوطني اللبناني في مدينة بيروت الرياضية وملعب بيروت البلدي، وتنتهي بكأس العالم الأخيرة. «كان ينتظر مباريات إيطاليا بفارغ الصبر، وكان يعدّ نفسه بما نسمّيه الثنائية في عالم كرة القدم»، والثنائية هنا تعني الفوز بكلتا البطولتين العالمية والقارية. ثنائية التوتر السياسي ولقمة العيش سبقت انطلاق صافرة البداية، فرحل الشهيد قبل بداية البطولة. المشهد المؤلم هو «علمه الإيطالي» على الشرفة، الذي أصرّ أهله على تعليقه كما كان يفعل تماماً، وبالمناسبة رفاقه فقدوا جزءاً كبيراً من الحماسة أثناء مشاهدتهم فعالية البطولة، بعد وقوع الفراغ الناتج من رحيله باكراً.



... والمقاهي تسجّل أسعاراً جديدة

ليال حداد

الساعة التاسعة مساءً. بدأت «الجماهير» الألمانية تتوافد إلى أحد المجمعات التجارية في بيروت. ازدحمت الطاولات، علت أصوات التلفزيونات واتخذ المشجعون أماكنهم. «الله يخليك شي 3 كراسي بعد» يقول أحد الزبائن، تبدو الصدمة على وجه النادل فلا يجد سوى تعليق واحد «3 كراسي شو بدك يقتلوني؟». فالحصول على كرسي في هذا المطعم تحديداً يبدو مستحيلاً بسبب عدد الزبائن المرتفع.
انطلقت المباراة وانقسم الرواد إلى قسمين، مع ألمانيا وضدها «أنا لا أحبّ النمسا ولكن أكره ألمانيا» يقول جورج خوري رافعاً علم النمسا إثر إحدى الهجمات التي كادت تكون هدفاً. وعلى سبيل الاستفزاز، رفع بعض الموجودين أعلام البرازيل، الخصم التاريخي لألمانيا.
الأجواء «ولعانة» في المجمع التجاري، والأسعار أيضاً. كوب عصير الليمون على سبيل المثال سعره ثمانية آلاف وخمسمئة ليرة «في الأيام العادية سعر الكوب في هذا المطعم تحديداً لا يتجاوز أربعة آلاف ليرة» يقول نيكولا خليفة ولكنه يردف ممازحاً «بس إذا ألمانيا بتربح بدفع حقو عشرين ألف».
انتهى الشوط الأوّل. ازدادت الطلبات على الطعام والمشروبات. «أحمد الله على بطولة أوروبا، فالبقشيش يكون كثيراً رغم أن العمل يصبح متعباً» يقول حسن كركي أحد العاملين في المقهى. ويشرح أنّ الأسعار تصبح أغلى تلقائياً «هذه قوانين السوق، يزداد الطلب، تزداد الأسعار». ولكن لا يبدو لهذه الأسعار تأثير على الزبائن «زبائننا معروفون، أغلبهم من الميسورين أو الماكنين مادياً».
بدأ الشوط الثاني، سجّل ميكايل بالاك هدفاً، علت الأصوات المشجّعة وظهرت الأعلام الألمانية، لكن اللافت كان ازدياد الطلبات على المأكولات «خلي ألمانيا تربح والباقي كلو بيتعوّض» تقول ميراي مسعود.
خارج المجمع التجاري لا يبدو الوضع مختلفاً، ففي معظم المطاعم ازدادت الأسعار، لا سيما على المشروبات الكحولية والنراجيل، فبعد فترة الركود الاقتصادية التي رافقت التوترات الأمنية، يبدو أن أصحاب المطاعم وجدوا فرصتهم للتعويض عن الخسارة.