لم يوزّروا ولا مرّة، انتخبوا ولم يُنتخبوا، وحصّتهم في الدولة محدودةبعدما اختتمت الجولة الأولى من المشاورات بين التيّار الوطني الحر والمسؤولين الروحيين للطوائف المسماة أقليّات بلقاء لهؤلاء مع العماد ميشال عون في الرابية، بدأ حزبا القوات اللبنانيّة والكتائب بحث ما يمكنهما فعله لتدارك غضب هذه الطوائف من «تمادي الإقصاء» و«سرقة الحقوق»
غسان سعود
قلّة يعلمون ربما أن كلمة لبنان هي في الأصل سريانيّة، وتعني قلب الله. وبيروت، الكلمة السريانيّة أيضاً، تعني أرض الصنوبر. فيما بكفيا هي أرض الصخر، وجونية تعني الزاوية، ورشميا رأس النبع، وزحلة الزاحفة، وبعلبك إله الخصب. وقلّة شاهدوا مطران جبل لبنان للسريان الأرثوذكس جورج صليبا يردد بحدّة أن أصل لبنان وأصل الموارنة سريان كما تؤكد آثار كثيرة. وقلّة يأخذون في الاعتبار، يتابع صليبا، أن عدد ناخبي أبناء هذه الطوائف يتجاوز الخمسة وأربعين ألفاً (عدد كبير من أبناء هذه الطوائف يسجّلون لاعتبارات وظيفيّة عند طوائف أخرى). والنظام الطائفي اللبناني يعطي أقليات عديدة الحق بالتمثل في المجلس النيابي مرة بنائب مثل الطائفة الإنجيلية وطائفة الأرمن الكاثوليك، ومرّة بنائبين مثل الطائفة العلويّة، علماً بأن صليبا وغيره يبدون حرصاً كبيراً على عدم الظهور بمظهر المطالبين بحصة على حساب الطوائف الأخرى، ويدعون إلى إنصافهم دون التعرض لحق أولئك، آخذين في الاعتبار أن عدد أبناء طائفة السريان الأرثوذكس يتجاوز مجموع أعداد الطوائف المصنّفة أقليات (سريان كاثوليك، كلدان، أشوريون، أقباط) إضافة إلى البروتستانت والأرمن الكاثوليك.
ويروي المطران صليبا عن مرحلة ذهبية عاشتها الطائفة في لبنان لقرون قبل أن تقع حرب المقدمين بينها وبين الموارنة في القرن السادس عشر، والتي اندحر بنتيجتها السريان الأرثوذكس من لبنان وتشتتوا في الدول المجاورة (خصوصاً سوريا والعراق) ليعودوا ويلموا شملهم ابتداءً من نصف القرن التاسع عشر الثاني، ويثبتوا وجودهم في زحلة، المتنين، وبيروت. وهي لليوم تحافظ على ثقافتها سواء عبر ضمان استمراريّة اللغة أو من خلال المدارس والجمعيات والكشّافة.
انفجرت قضية هذه الطوائف، بحسب رئيس الرابطات المسيحيّة حبيب افرام، بعد انتهاء مؤتمر الدوحة الذي لم تمثل فيه، وذلك لثلاثة أسباب رئيسية هي: أولاً، عدم أخذ المؤتمرين في الاعتبار أن أبناء هذه الطوائف لم يوزّروا منذ إنشاء لبنان الكبير، فيما وُزّر أبناء طوائف أخرى، أصغر منهم، أكثر من مرّة.
ثانياً، نقل المؤتمرين مقعداً واحداً، حصراً من دائرة الأشرفية ـــ الرميل ـــ الصيفي في بيروت كما نصّت قوانين الستّين وبطرس وفرنجيّة، إلى الدائرة الثالثة في بيروت. ويسأل رئيس الرابطات هنا عن المنطق في إهداء هذا المقعد لزيادة نفوذ تيار ما. وثالثاً، هناك الغبن الإداري الذي يمارسه النظام الطائفي بحق أبناء هذه الطوائف في كل الوظائف الإداريّة والأمنيّة والدبلوماسيّة. فيحصلون على فتات الوظائف، ويخسر «إينشتاين» فرصته لمجرد أنه سرياني أو كلداني أو قبطي.
وبهدوئه المعتاد، يرى أفرام أن المعالجة الحقيقية للغبن تبدأ بتوزير ممثل حقيقي لهذه الطوائف، ورفع عدد ممثليها في البرلمان إلى ثلاثة، بينهم اثنان للسريان الأرثوذكس وواحد للطوائف الأخرى، تمهيداً لوضع خطة طوارئ تعزز حضور هؤلاء في إدارات الدولة، مؤكداً أنهم ليسوا ضيوفاً في هذا البلد، ولن يتفرجوا على الأقوياء يتقاسمون الجبنة، وسيحددون موقفهم من كل القوى بناءً على أسلوب مقاربة هؤلاء لقضيتهم. لافتاً إلى أنهم مؤثرون انتخابياً، ومن حقهم الحصول على مقعد نيابي في دائرة بيروت الأولى، يتنافس عليه أبناء الطائفة، فيلغى مبدأ «نَنتخب ولا نُنتخب»، ويفوز في النهاية شخص «من قلب مؤسساتنا لا مجرد شخص ملحق بتيار ما».
وعن استغلال البعض لقضيتهم للظهور مظهر الحريصين على المصلحة المسيحيّة، يوضح أفرام أنهم اتصلوا بمعظم الأطراف المسيحيّة المؤثرة، وحمّلوهم مسؤولياتهم. مؤكداً أن هذه الطوائف تريد حلاً، «والكلام المعسول والمسايرة لا يفيدان، وثمة حاجة إلى خطوات عمليّة. من هنا، فإننا نقترب أو نبتعد من هذه الأطراف بقدر اقترابها أو ابتعادها من تعديل القانون ونقل مقعد الأقليّات بداية إلى دائرة الأشرفيّة».
ويضيف: «الكل أمام محك، وإذ نقدر موقف العماد ميشال عون وحلفائه، نشير إلى أنه كان على القوات والكتائب وغيرهما من القوى المسيحيّة المتحالفة مع تيار المستقبل استغلال العلاقة الجيدة به لإقناع حلفائهم بإعطاء أصحاب الحق حقهم. مع العلم أن تعديلاً بسيطاً على اتفاق الدوحة لن يؤثر على روحيّته».
ويشدد أفرام بعد لقاء الأمين العام للرابطات مع وفد الكتائب والقوات، وسماع وجهة نظرهما، على أنه لا علاقة لمقعد الأقليات بأيّة مقاعد أخرى سواء في الهرمل أو الشمال أو الجنوب. والأمر لا يحتمل المقايضة، وخاصة أن الفريق المسيحي الآخر متضامن بالكامل.
وبالنبرة واللغة نفسيهما، يقول رئيس طائفة الكلدان في لبنان المطران ميشال قصارجي إن المطلب الأساسي هو تمثل كل طائفة بنائب، كما ينص الدستور، مشيراً إلى أنّهم قدموا المذكرات إلى المسؤولين وتريثوا طويلاً دون جدوى، «والمطلوب اليوم معالجة جديّة لهذا الموضوع».
فيما يرى المطران صليبا أن أبناء طائفته كانوا مندفعين للدفاع عن القضايا اللبنانيّة، «توزعوا بين أحزاب الكتائب والأحرار والقوات من جهة والقومي والشيوعي والبعث من جهة أخرى بحثاً عن انتماء يكرس هويتهم اللبنانيّة والعروبية، مع العلم أن ثمة روابط متشعبة ومتينة بين أهل هذه الطوائف في لبنان وسوريا».
وينتظر المطران صليبا (سوري الجنسية، يقيم في لبنان منذ خمسين عاماً) أن تحمل الحركة بركة «فيتحقق ما تسعى هذه الطوائف إليه إن ليس عاجلاً فآجلاً، ومن المهم هنا عدم اليأس، وخصوصاً أن فيصل الأول كان يقول ما مات حق وراءه مطالب».
ويحاول حزب الاتحاد السرياني (أول حزب للطائفة السريانيّة في لبنان، أنشئ عام 2004) التحرك وفق امتداده المتواضع لتعديل ما اتفق عليه في الدوحة، وفق أمينة سر الحزب نورا جرجس التي تشدد على رفض تصنيف السريان كإحدى طوائف الأقلّيات. لافتة إلى عقد رئيس الحزب ابراهيم مراد مؤتمراً صحافياً يوم السبت المقبل في منطقة سد البوشرية لعرض نتائج تحركاتهم والخطوات التي ينوون القيام بها.
وتقول جرجس، وسط الاتصالات التي تنهال على الحزب تأييداً لمواقف رئيسه، إلى ترفعهم عن التجاذبات السياسيّة، مع العلم أن الحزب قريب جداً، في مبادئه واقتناعاته، من القوات اللبنانيّة، وهو يعادي حزب الله «صاحب المشروع التخريبي» وكل من يتحالف معه.
فيما يرى المسؤول في التيّار الوطني الحر زياد عبس أن ثمة اقتناعاً عونيّاً بأن اندماج الطوائف في الحياة الاقتصادية والاجتماعية اللبنانية مرتبط مباشرة بقدرة النظام اللبناني على الإجابة عن هواجس هذه الطوائف ومسببات قلقها، مشيراً إلى أهميّة أن تعبّر الطوائف عن أنفسها، وتنتج قياداتها وممثليها، وتوصل صوتها دون الدخول في المقاربات العدديّة، وخصوصاً إذا قيست هذه الطوائف المشرقيّة التاريخيّة بمقياس ثقافي حضاري يأخذ في الاعتبار تجذّرها في المجتمع اللبناني. وهي في أساس الوجود المسيحي في لبنان، وتمثل العمود الفقري للمسيحيين الباقين في العراق والأردن وفلسطين. ويشدد عبس على أن لبنان في حقبة الحرية يفترض أن يعود ملجأً يُشعر أبناء هذه الطوائف بأن حقوقهم محفوظة.
لافتاً إلى أن إصرار عون خلال اتفاق الدوحة على إبقاء مقعد الإقليات في الأشرفية دفع كثيرين إلى اتهامه بالسعي لتعطيل الحل، وقال أحدهم إن عون «يريد أن يوقف الاتفاق من أجل مقعد لبعض السريان».
مؤكداً أن وقوف الفريق المسيحي مع عون بهذا الشأن كان سيعيد إلى أصحاب الحقّ حقّهم. أما الحل، يجيب عبس، فبرفع الصوت، وتوسيع دائرة التنسيق في هذا الشأن، ودعم هذا المطلب بأرقام ومعطيات موثقة وواضحة تؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير هذا القانون. مع تعهد من عبس، باسم تكتل التغيير والإصلاح، بأن يستمر التفاوض لتوسيع الحكومة بحيث تضم وزيراً يمثل هذه الطوائف، إضافة إلى الضغط لتحسين أوضاع رعاياهم في مختلف إدارات الدولةhr noshade>
وطن الأقليّات

على هامش التنقل بين مطرانيات الكلدان والسريان والأشوريين والأقباط، وسماع وجهات نظر السياسيين، ثمة ملاحظة تفرض نفسها. فهؤلاء كلهم يشددون على ظلم النظام الطائفي اللبناني لأبناء هذه الطوائف، ومسّه مباشرة بحق الإنسان في الترقّي الوظيفي وتولّي المسؤوليات. ويكثرون من الأمثلة عن شبان منعوا من تحقيق أحلامهم لمجرد أن على إخراج قيدهم «كمشة أحرف غير تلك التي تصنف فئة أولى».
ولكن في كل الزيارات والاتصالات لا يُسمع غير حل واحد، وهو إجراء تعديلات على النظام تجعله على مقاس أصغر الطوائف، فيحصل الأشوريون والكلدان والأقباط والسريان على نوابهم، ليتكرس بذلك حضور نواب الطوائف جميعاً.
وعلى هامش التحقيق، أسئلة عمّا سيحصل حين يصبح الأرمن والدروز والأرثوذكس والموارنة أقليات في وطن ينسى مسؤولوه أن كلَّ أطيافه أقليات.