strong>تتعرّض التحقيقات الأولية لتشكيك متهمين كثر يدّعون تعرّضهم للضرب والتعذيب، من دون أن يتقدم أكثر وكلائهم بدعاوى قضائية ضد «معذّبيهم». ماذا يمكن السلطات أن تقوم بإجراءات لمعالجة هذا الأمر؟
حسن عليق
«هل تؤيّد إفادَتيْك الأوّلية والاستنطاقية؟». سؤال أوّلي يطرحه أي رئيس محكمة في بداية جلسات استجواب المتهمين الماثلين أمامه. متهمون كثر يؤيّدون إفاداتهم أمام قاضي التحقيق، أما الإفادة الأوّلية التي أدلوا بها أمام رجال الأمن، فينكرها عدد كبير من المتهمين. أحد الأمثلة على هذا الأمر، هو قضية مجموعة الـ13 الماثلة أمام المحكمة العسكرية، والمتهم أعضاؤها بالانتماء إلى تنظيم القاعدة. التحقيقات الأوّلية في هذه القضية، التي أجراها فرع المعلومات في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بداية عام 2006، تضمّنت اعتراف أحد أفراد المجموعة بالتخطيط للاعتداء الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري عام 2005. وأوردت المحاضر تفاصيل عن مراحل الإعداد للجريمة، بدءاً من تجهيز المتفجرات واختيار الانتحاري (أحمد أبو عدس)، ثم تسجيل الشريط المصور الذي تبنّى فيه أبو عدس عملية الاغتيال، قبل مراقبة الموكب وتنفيذ الهجوم. في المحاضر ذاتها، تراجع «المعترِف» عن هذه الإفادة.
وخلال جلسة المحاكمة التي جرت في اليوم الخامس من الشهر الجاري، قال فيصل أكبر (المتهم الذي نُسِبَ إليه الاعتراف والتراجع) إن أكثر ما تحتوي عليه إفادته أمام فرع المعلومات أُخِذَ منه تحت التعذيب، مضيفاً أن ما تعرّض له خلال التحقيق الأوّلي أدّى إلى دخوله المستشفى ثلاث مرات. أما حديثه عن تسجيل شريط أحمد أبو عدس، فقال أكبر إنه «سيناريو اخترعه فرع المعلومات وألصقه بي». وعندما وجّه إليه رئيس المحكمة سؤالاً عن سبب تراجعه عن إفادته خلال التحقيق الأوّلي، أجاب: أنا لم أتراجع، هم تراجعوا. وقّعت إفادتي من دون أن أقرأها، ليتبيّن لي لاحقاً أنها تتضمن اعترافاً وتراجعاً عنه. لو رأيتُ الإفادة لما وقّعت عليها».
زميله هاني الشنطي قال إن ما ذُكِر في التحقيق الأوّلي عن علاقة أفراد المجموعة بأشخاص مرتبطين باغتيال الحريري هو أمر «فبركه فرع المعلومات». موقوفٌ آخر، طارق الناصر، تحدّث أمام المحكمة عن تعرّضه للخنق وتعليقه بطريقة الفروج، قائلاً إن المحققين عرضوا عليه إفادةً فوقّعها ثم ضربوه ليوقّع أخرى، قبل أن يضيف: «كان المحقق يشتمني لأنني سوري، ويتوعدني بإعداد فخ لي». الطبيب الذي يكشف على الموقوفين لدى فرع المعلومات لم يسلم من الانتقاد. فالمتهم مالك نبعة قال إن الطبيب المذكور كان يفحص الموقوفين قبل التحقيق، «كأنه يريد معرفة قدرتنا على تحمل التعذيب».
ادعاءات التعرّض للتعذيب لا تقتصر على الذين خضعوا لتحقيقات لدى فرع المعلومات. فمن أوقِفوا لدى استخبارات الجيش يتحدثون عن تعرّضهم لمعاملة لا تقل سوءاً عن المذكور أعلاه. كما أن قضايا المخدرات، وبعض القضايا الجنائية العادية، لا تكاد تخلو واحدة منها من تشكيك المتهم في إفادته الأوّلية.
لكن أكثر المحامين الذي يدّعون أن موكّليهم تعرضوا للتعذيب لا يتقدمون بدعاوى قضائية ضد «المعذِّبين». وأكثر المحامين الذين التقت بهم «الأخبار» لا يثقون بأن هذه الدعاوى يمكن لها أن تحصّل حقوق الموكلين. رغم ذلك، كان للمحاكم كلام آخر. ففي إحدى الحالات، تقدّم موقوف سابق اتهم بالسرقة بدعوى قضائية ضد أحد المحققين، فأصدر القاضي المنفرد الجزائي في بيروت حكماً لمصلحة الموقوف في آذار 2007.بدورها، أصدرت محكمة الاستئناف في جبل لبنان (الغرفة التي يرأسها القاضي صلاح مخيبر) قراراً صادقت فيه على حكم ببراءة موظفين متهمين باستغلال وظيفتهم. واستندت المحكمة إلى وقائع عدة، منها أن التحقيقات الأوّلية التي كانت قد أجريت في وزارة الدفاع استخدِمت فيها وسائل لا يقرّها القانون ولا يتحمّلها المتهم لشدة خروجها عن المألوف.
معالجة التشكيك في التحقيقات الأوّلية لا تحتاج إلى أكثر من تغييرات بسيطة، كما أجمع عدد من المحامين الذين تحدّثوا إلى «الأخبار». وهذه التغييرات تتلخص بالآتي: حضور المحامين للتحقيقات الأوّلية، وتسجيل التحقيقات بواسطة الفيديو. هذه الإجراءات علّق عليها مرجع أمني رفيع بالقول إن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بدأت، منذ نحو ثلاث سنوات، بتغيير السياسة التحقيقية المتّبعة في المؤسسة. فالتطوير المهني والتقني الذي يشهده عدد من قطعات المؤسسة يؤدي إلى الاستناد أكثر إلى الأدلة العلمية في التحقيقات. كما أن فرع المعلومات بدأ باستخدام جهاز كشف الكذب، الذي رغم أن المحاكم لا تأخذ بنتيجته، إلا أنه يساعد المحققين على إدارة التحقيقات من دون الحاجة إلى التعرّض للموقوف بأي وسيلة كانت. كما أن فرع المعلومات، أضاف المرجع ذاته، بدأ بتصوير الفيديو لكل التحقيقات التي يجريها، على أن تُسلّم نسخة من التصوير إلى القضاء. أما مسألة حضور محامين للتحقيقات الأوّلية، فهي بحاجة إلى نص قانوني يصدر عن مجلس النواب، لأن قانون أصول المحاكمات الجزائية لا ينص سوى على حق الموقوف بالاتصال بمحام، من دون أي إشارة إلى حضور الأخير التحقيقات الأوّلية.
مجلس النواب لم يعقد أي جلسة تشريعية منذ أكثر من سنة ونصف. وبعد اتفاق الدوحة، انتعش الأمل بعودة نواب الأمة إلى ممارسة دورهم الأساسي. فهل تكون حقوق الموقوفين على جدول أعمالهم؟