نقولا ناصيفبمرور الوقت، يوماً بعد آخر، تطرأ صعاب إضافية على المأزق الحكومي وتجعل التوصّل إلى حلّ له أبعد منالاً. وما يبدو واضحاً في مواقف الأفرقاء المعنيين أن أياً منهم لن يتزحزح عن شروطه، وبات من الصعوبة بمكان تلمّس الجانب المحلي في هذا المأزق من الجانب الإقليمي. فرئيس الجمهورية ميشال سليمان أصبح أسير رغبته في طلب الحصول على حقيبة الدفاع وإسنادها إلى الياس المر. ورئيس الحكومة المكلّف فؤاد السنيورة ينتظر تسوية مشكلة يعتقد أنها بين الأفرقاء المسيحيين حول حقيبة اتفق على أنها لهم، وحول وزير من صفوفهم. والرئيس ميشال عون يرفض توزير المر ولكنه ليس العقبة الوحيدة في هذا الموضوع. وراءه اتخذ حزب الله موقفاً مماثلاً. وثمة إشارات صريحة إلى موقف مماثل لدمشق تجعلها لا تطمئن إلى توزير المر.
بيد أن لهذا المأزق وجوهاً أخرى أبرزها:
1 ـ أن الخيار الوحيد المتاح أمام رئيس الجمهورية هو الاتفاق مع الرئيس المكلف على إصدار تشكيلة حكومية تأخذ في الاعتبار الحصص التي لحظها اتفاق الدوحة للموالاة والمعارضة. ثم يعمد الرئيسان إلى توزيع الحقائب عليها. لكن خياراً كهذا محفوف بخطر أكيد هو احتمال رفض المعارضة التشكيلة المقترحة، أو الاستقالة من الحكومة الجديدة في حال صدور مراسيمها. عندئذ تصبح البلاد في مأزق أكثر تعقيداً، هو شغور حكومي حقيقي لأن الحكومة الجديدة تكون قد ورثت حكومة تصريف الأعمال التي لا يعود لها وجود دستوري فور صدور مراسيم الحكومة الجديدة. ويدخل العهد في مأزق يهدّده هو بالذات. لا يستطيع تأليف حكومة لا تضم المعارضة بقواها الثلاث، عون وحزب الله وحركة أمل، ما دامت هي الفريق الآخر في اتفاق الدوحة. ولا يستطيع إرغامها على الانضمام إلى حكومة ترفضها. وبالطبع لا يسع السنيورة التصرّف هذه المرة مع وزراء مستقيلين على غرار ما فعل مع الوزراء الشيعة الخمسة في حكومة تصريف الأعمال عندما عدّ استقالاتهم تغيّباً عن مجلس الوزراء.
2 ـ لم يدخل رئيس الجمهورية طرفاً في السجال على تأليف الحكومة إلا في أسبوعها الثاني، عندما انفجر الخلاف فجأة على حقيبة الدفاع التي لم تُثر قبل ذلك الوقت كمشكلة في ذاتها، ولا قيل برفض توزير المر. وحرص سليمان في الأسبوع الأول من مشاورات التأليف أن ينأى بنفسه عن توزيع الحصص، آخذاً بحقيبة الداخلية التي حدّدها له اتفاق الدوحة، وبدّد أي انطباع بتوزير عسكري. في المقابل نظرت المعارضة إلى ابتعاده، وتَرْك السنيورة في واجهة الحدث، على أنه يستعيد تصرّف سلفه الرئيس إميل لحود الذي كان يواجه عزلة سياسية حادة بعدم مشاركته في تأليف الحكومة الأولى للسنيورة، والذي دارت رحى مشاوراته بين قوى 14 آذار والفريق الشيعي وعون، إلى أن أخرج التحالف الرباعي حينذاك العماد من التحالف الحكومي، فورث لحود حصته بثلاثة وزراء هم: الياس المر، شارل رزق ويعقوب الصرّاف. وإذا بالأسبوع الثاني من تعثّر التأليف يضع الرئيس ـــــ لا السنيورة ولا الغالبية ـــــ وجهاً لوجه في مواجهة عون.
3 ـ يتبيّن بجلاء تحييد سوريا عن مسؤولية تعثّر تأليف حكومة الوحدة الوطنية، بينما تستمر الإشادة المعلنة، مع الفرنسيين والأوروبيين، والمضمرة مع الأميركيين، بالدور الإيجابي الذي اضطلعت به دمشق لانتخاب الرئيس اللبناني بالتزامن مع استعداد للانفتاح عليها. ورغم أن الأفرقاء المحليين الذين وقفوا عقبة في طريق إجراء الاستحقاق الرئاسي هم أنفسهم، وهم حلفاء سوريا أنفسهم، ولا يزالون إياهم حجر عثرة في طريق تأليف الحكومة الجديدة، ولا يزالون أيضاً حلفاء لدمشق، لم يعد يُنظر إلى سوريا كجزء من الخلاف الناشب بين اللبنانيين. وراحت المواقف العربية والدولية على السواء تعزو التعثّر الحكومي إلى خلافات اللبنانيين، ولا توحي بإشارات إلى مسؤولية دمشق، وتحبّذ كذلك عدم التدخّل في ما أصبحت تعدّه شأناً داخلياً. أمر كهذا يعكس بالضرورة تغييراً متدرّجاً في نظرة الخارج إلى سوريا وإلى دورها في لبنان، وتراجعاً هادئاً للزخم الدولي حيال بيروت. ويُظهر أيضاً أن الخارج ترك لبنان للبنانيين بعد انتخاب رئيس لهم، ونشوء توازن قوى جديد يأخذ في الاعتبار تسليم الموالاة بنتائج الانقلاب الذي فرضته المعارضة عليها في الشارع.
والأحرى أن يمثّل تأليف حكومة الوحدة الوطنية أحد فصوله في تغليب وجهة نظر هذه المعارضة.
4 ـ لا مبرّرات علنية لأسباب طلب إقصاء المر عن وزارة الدفاع. ولا تبدو كذلك العقبات التي تقف في طريق تأليف الحكومة مقنعة كي يستمر المأزق. وإذا كانت مفهومة، ومبرّرة على المستوى الشخصي، الدوافع التي تحمل الرئيس على التمسّك بتوزير المر لأنه ـــــ ووالده النائب ميشال المر ـــــ كانا الوحيدين من السياسيين اللذين راهنا طوال الوقت على سليمان رئيساً، وهو لما يزل في قيادة الجيش في لحظات ضعفه وفي لحظات قوته، فإن الغموض الذي يحجب الموقف الفعلي من رفض توزيره يشير إلى تحميل الأخير تبعة أكثر من التباس وسوء تفاهم كاد يتحول صداماً بين الجيش وحزب الله بسبب ما تعتبره المعارضة أخطاء ارتكبها الوزير. ذلك أن النتائج التي انتهت بها أحداث 7 أيار تجاوزت العلاقة السلبية بين المر والمعارضة، وفرضت أمراً واقعاً سياسياً وأمنياً يقتضي أن لا تتكبّده الموالاة وحدها، بل أيضاً وزير الدفاع الذي تصرّف باستمرار على أساس أنه عضو غير معلن في صفوفها.
بيد أن مقاربة كهذه تُحمّّل أحياناً أكثر مما يجب لسبب بسيط، هو أن وزير الدفاع ـــــ أيّ وزير للدفاع ـــــ يوحي دوره حيال قيادة الجيش أقلّ ممّا يسعه القيام به، ويترجّح بين حدّ أقصى هو تكيّف الوزير مع قائد الجيش الذي يمثّل المرجعية الفعلية للمؤسسة العسكرية ولا تتعدّى سلطة الوزير عندئذ غير كونها صلة وصل بين القائد والمراجع السياسية، وحدّ أدنى هو اكتفاء الوزير بتوقيع المعاملات الإدارية وتوزيع رخص حمل السلاح. بذلك يقترب دور وزير الدفاع حيال قيادة الجيش من دور وزير المال حيال حاكم مصرف لبنان. كلاهما سلطة وصاية محدودة الفاعلية نظراً إلى ما للقائد والحاكم من استقلالية لا يسع الوزير تقييدها ـــــ وهو لا يوازيهما في ثبات الموقع ـــــ وما لكل منهما من حصانة وظيفية أو سياسية تمنع التعرّض له، بل تجعل كلاً منهما سلطة مساوية للسلطات الدستورية. أضف أن في وسع القائد والحاكم الوصول إلى رئاسة الجمهورية. وهما النموذجان الأكثر تأثيراً في امتلاك القدرات المؤدية إلى السلطة.