المسؤولون اللبنانيّون والفلسطينيّون لم يستوقفهم خطر الاغتراب على حقّ العودةتصاعد السجال اللبناني حول توطين اللاجئين الفلسطينيين. فمنهم من يرى في تحريك الموضوع فزاعة للاستغلال، ومنهم من وجد في التوطين خطراً حقيقياً... ولكن كيف يقرأ اللاجئ الفلسطيني هذا الأمر في «مخيم الجليل» أو «مخيم ويفل» في بعلبك؟
عفيف دياب
تقبض الحاجة أم ابراهيم حسن (76 عاماً) بشدّة على مفتاح منزل ذويها السابق في قرية لوبيا في الجليل الفلسطيني المحتل بعدما غادرته قسراً وقهراً عام 1948 إلى جنوب لبنان ومنه إلى مخيم الجليل في بعلبك. الكلام عن توطين اللاجئين في لبنان أو غيره لا يعني شيئاً لأم إبراهيم: «ما بدي اشي. بدي بس ارجع على فلسطين». وتتابع بعدما أضناها العمر في غرفة صغيرة داخل «أحجية» الوصول إلى منزلها في مخيم الجليل: «يا ريت فينا نروح ع بلادنا. ما بدي ابقى هون».
لغة التوطين في مخيم الجليل جنوب مدينة بعلبك لا أحد يحب الاستماع إليها. ويقول الحاج عمر أبو سويد (70 عاماً) الذي كان «يتشمّس» في أحد أزقّة المخيم إن هذا الموضوع بات «تسديد حساب في ما بين اللبنانيين، ونحن لا علاقة لنا بالتوطين والصراع السياسي اللبناني. كل ما يهمّنا هو العودة إلى فلسطين، وإن كان واقع العودة اليوم أصبح صعباً ولكن لا بديل منها. هي بالنسبة لنا الموت أو الحياة».
مخيم الجليل، الذي يعدّ من أكثر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان «تنظيماً وترتيباً»، يشكل ميزة تقلق فلسطينيي لبنان بسبب الهجرة الكبيرة الذي يشهده نحو أوروبا، بحيث بات يلقب بـ«مخيم الدانمرك»، فالأخيرة قبلة المقيمين في المخيم من كبار السن، وصولاً إلى من يولد اليوم. الحاجة أم ابراهيم حسن لم يبق من أولادها الستة سوى محمد الذي ينتظر بدوره الهجرة والاستيطان في الدانمرك، وهو يعمل في فرن للمناقيش. إن جميع من في مخيم «ويفل» يرفضون التوطين و«لكن ما نعانيه يفرض علينا الهجرة التي هي أخطر من التوطين حين ننسلخ عن منطقتنا العربية أو عن أقرب نقطة لفلسطين». ويتابع: «للأسف لم يقرأ المسؤولون اللبنانيون والفلسطينيون أخطار الهجرة الفلسطينية من لبنان إلى أوروبا أو البلاد الأميركية، فهذه الهجرة النهائية تهدد حق عودتنا إلى فلسطين». ويضيف بعد أن يأخذ مفتاح «دار» جدّه في لوبيا الجليل من أمه: «لا نريد توطيناً في لبنان ولا في أي بقعة على الكرة الأرضية غير أرض فلسطين، ولا أريد أن أحمل جواز السفر اللبناني، كل ما أحلم به هو أن أعيش بكرامة وأن لا أكون مادة لصراع سياسي لبناني أو استخدم كفزاعة مع فريق ضد آخر».
كلام محمد النادم لأنه لم يهاجر قبل اليوم مع أشقائه إلى الدانمرك، منتظراً إنجاز معاملات سفره على أحرّ من الجمر، يعقّب عليه الحاج أبو عبد الله الذي ناشد الدول الأوروبية «فتح باب الهجرة لأن الفلسطيني هنا مهان ولا حقوق مدنية له. يحاربوننا لمجرد أننا من فلسطين. وهنا في لبنان يتصارعون في ما بينهم حول التوطين الذي نرفضه وأصبحنا نفضّل الهجرة إلى أوروبا على أن نكون وقوداً في خلافات لبنانية لا مصلحة لنا فيها. وصدقاً أقول لا أعرف لماذا تريد الموالاة والمعارضة إدخالنا في خلافاتهما وهم يستخدمون التوطين فزاعة ضد بعضهم البعض». ويتابع الحاج أبو عبد الله الذي يحنّ إلى أولاده الأربعة في أسوج إن 77% من أهالي مخيم الجليل مهاجرون و«لن يعودوا إلى هنا بعد اليوم. وهذا أخطر من التوطين!».
ويقول هشام جودة (22 عاماً) مندوب مؤسسة شاهد في مخيم الجليل إنه ينتظر الحصول على شهادته الجامعية والسفر إلى الدانمرك، مؤكداً أن التوطين في لبنان «لن يتحقق وأتمنى من الساسة اللبنانيين الإقلاع عن استخدام سلاح التوطين، فمخيم الجليل يشكل نموذجاً حياً لتفضيل اللاجئ الفلسطيني الهجرة على التوطين وحرمانه أبسط حقوقه المدنية في لبنان. معظم شبابنا هاجروا، ومنهم من ينتظر دوره، لأن الإهانة التي يتعرضون لها يومياً، عدا تحولنا إلى مادة للسجال السياسي اللبناني، فرضت علينا الهجرة والاستيطان في بلاد بعيدة عن فلسطين وعن العالم العربي كله».
ويقول أحد المسؤولين الحزبيين في المخيم إن استمرار القوى اللبنانية في التحدث عن التوطين: «يخيفنا جداً ويعطي شبابنا وأهلنا انطباعاً بأنهم منبوذون وما عليهم سوى الرحيل والتشتت في بلاد العالم، وهذا الأمر قد يتحول إلى خدمة للعدو الإسرائيلي الرافض لمبدأ العودة».
ولكن هل القلق اللبناني من التوطين في محله؟ وهل يساهم حقاً في ضرب حق العودة؟ لا يخفي باحث فلسطيني دور السلطة الفلسطينية في إضعاف حق العودة عبر عدم بلورتها لهذا الحقّ في أكثر من مؤتمر ومحطة دولية. وهذه الرخاوة الرسمية الفلسطينية، حتى لو كانت صادرة عن حسن نيّة، انعكست مزيداً من الضياع والبلبلة على نفوس فلسطينيي الشتات، ولا سيما في لبنان. وما نموذج المخيم البعلبكي سوى واحد من الشواهد على ما يتربّص باللاجئين وبمصير حق العودة.


حقائق وعودة

حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين مثبت بالقوانين والشرائع الدولية منذ 1948. ولكن مسار العملية السلمية العربية ـــ الإسرائيلية منذ مؤتمر مدريد (1991) واتفاق أوسلو (1993) وخريطة الطريق (2003) انعكست سلباً على حق العودة. ومع تراجع الوضع العربي والفلسطيني إثر اتفاق كامب دايفيد بعد 1979، وخروج منظمة التحرير من بيروت عام 1982، بدأت قضية حق العودة تنحسر ودخلت في بازار المساومة. فالدورة الـ16 للمجلس الوطني الفلسطيني عام 1983 (الجزائر) أكدت حق العودة وأيضاً في الدورة 17 عام 1984، إلى أن جاء التنازل الرسمي عن هذا الحق للمرة الأولى في شباط 1985 بعد الاتفاق الأردني ـــــ الفلسطيني. ولكن في الدورة الـ18 للمجلس الوطني (1987) أعيد الاعتبار إلى حقّ العودة. أما في الدورة الـ19 (1988) فقد أدخل حق العودة في الغموض.