نقولا ناصيفبات المسؤولون والأفرقاء المعنيّون يقاربون المأزق الحكومي بعدم استعجال الخروج منه، وانتظار مفاجأة تحمل المتصلّبين على التراجع عن شروطهم. وفي ظنّ كل من هؤلاء أن الطرف الآخر هو المعنيّ بعرقلة التأليف وبتخفيف تشنّجه تسهيلاً لتعويم حكومة الوحدة الوطنية. لكن الطرفين الأكثر التصاقاً بالمأزق هما: رئيس الجمهورية ميشال سليمان والرئيس المكلف فؤاد السنيورة. الأول يختبر حكماً مغايراً للطريقة التي اعتادها في قيادة الجيش، هي أن يطاع ما إن يأمر ويفرض قراراته ويقود مؤسسة متماسكة وينبذ المساومة والتنازل. والآخر يختبر حكماً لا يقتصر على حلفائه على غرار السنتين الأخيرتين، تسلّح بالغالبية الحكومية وتجاهل الوزراء المعتكفين ثم المستقيلين وقرّر ما اعتبر أنه يلائم الموالاة، وأن يكون صاحب الكلمة الوحيدة في الحكم. كلاهما في المأزق، ويعرف أنه ليس الأكثر ثباتاً في موقعه، ولا الأكثر قدرة على المناورة والتحرّك والاستقطاب والمواجهة. للمرة الأولى، يؤلف رئيس للجمهورية أو يُحمَل على تأليف حكومة وُزّعت فيها قبل استشارات التكليف والتأليف حصص طرفي النزاع فيها، وأعطي الحصة الأضعف التي تحول دون ترجيحه كفة فريق على آخر، ولا تجعله قادراً على إرغامهما على الأخذ بوجهة نظره، ولا تمكينه من السيطرة على نصاب مجلس الوزراء. لا يملك الرئيس في آلة الحكم سوى شعار الإجماع الذي أوصله إلى المنصب، وهو أنه مرشّح توافقي، ويُخشى أن يقع في فخ تحميله شعاراً مماثلاً يحيله رئيساً توافقياً على نحو ما يوصف في بعض الأحيان، فيكتفي بإدارة خلافات الأفرقاء المتنازعين. ولأنه رئيس توافقي يقتضي عندئذ ألا يجعل من ممارسته صلاحياته الدستورية سبباً لتعارضها والتوافق حتى انتخابات 2009، وربما بعدها إذا استعادت نتائج انتخابات 2005 كما كانت أو قلبت الأدوار فيها. قبله، لم يكن الرئيس الياس سركيس مرشّحاً توافقياً، ولا انتخبه الإجماع رئيساً توافقياً، وكان ذا صلاحيات أفعل وأوسع نطاقاً، مع ذلك لم يسعه، وهو المحاط بأفرقاء أقوى منه، إلا إدارة خلافات لبنانيين مع لبنانيين، ولبنانيين مع سوريين وفلسطينيين.
والواضح أن المبرّر الفعلي للحصة التي أعطيت لسليمان ليس إحداث توازن في السلطة الإجرائية، بل الحؤول دون تقسيمها بين الفريقين الآخرين وفق تمثيلهما السياسي في البرلمان، أي 17 وزيراً للموالاة و13 وزيراً للمعارضة. وكذلك تفادياً لحصول قوى 14 آذار على ثلثي مجلس الوزراء. وهو مغزى قول رئيس المجلس نبيه بري إن المعارضة أعطت رئيس الجمهورية من حصتها وزيرين. لكن المشكلة التي تضاعف إحراج سليمان أنه، وخلافاً لأسلافه، طلب لحصته الحقيبة التي لم يهتموا في مطلع عهودهم لشأنها، وهي الدفاع. وأصرّ عليها، واجتهد البعض في تبرير طلبه على أنه الأكثر معرفة بشؤونها كقائد سابق للجيش، وأن تخلّيه عنها طعنة لعهد بالكاد بدأ، وأن الرئيس يتصرّف بإخلاص حيال مَن بكّر في ترشيحه، وهما: النائب ميشال المرّ ونجله الوزير الياس المر. مفاد هذه الحجج ألا يتخلى الرئيس عن حقيبة الدفاع فيبقى بلا حكومة، أو يقايضها بثمن مكلف، أو يصبح محور تفاوض مع المعارضة فيما المعني به هو الرئيس المكلف. وهكذا يتلطّى السنيورة وراء سليمان، لا العكس. اعتاد الرؤساء المتعاقبون خيارين انفردوا بهما. تأليفهم في مطلع عهودهم الحكومة التي يريدونها، وكانوا يختارونها تكنوقراطية ـــــ وأحياناً من خارج البرلمان ـــــ كي تعمل فريقاً يثق به الرئيس، ولا يعبّر بالضرورة عن توازنات سياسية (الحكومة الإدارية مع الرئيس كميل شمعون، وحكومة الثمانية مع الرئيس فؤاد شهاب، وحكومة الشباب مع الرئيس سليمان فرنجيه وحكومتا التكنوقراط مع الرئيسين الياس سركيس وأمين الجميل، وصولاً إلى أولى حكومات الرئيس إميل لحود). كان الرئيس يختار أيضاً حقيبة الخارجية نافذته على العالم كي يشرف مباشرة على السياسة الدبلوماسية. وهكذا تشبّث رؤساء متعاقبون بوزراء خارجية رافقوا عهودهم أو معظمها، كحميد فرنجية وفيليب تقلا مع الرئيس بشارة الخوري، وتقلا مع شهاب والرئيس شارل حلو، وخليل أبوحمد مع فرنجية، وفؤاد بطرس مع سركيس وفارس بويز مع الرئيس الياس الهراوي. لم يكن حينذاك مَن يتحدّث عن حقيبة سيادية، ولم تكن حقيبة تقف في طريق تأليف حكومة.
بدوره المأزق الحكومي هو مأزق السنيورة الذي يفصل بين تكليفه وتأليف الحكومة إلى حد يجعله يتصرّف وكأن تعذّر التأليف مسؤولية المعارضة، ولا يفقده هذا التذّرع مبرّر التكليف. ولأنه لا نصّ دستورياً يرغمه على التنحيّ، في وسع الرئيس المكلف ـــــ أيّ رئيس مكلّف ـــــ الاستمرار في هذا التكليف بلا ضوابط ما خلا النطاق الضيّق لتصريف أعمال الحكومة المستقيلة. مع ذلك ناقشت مداولات اتفاق الطائف عام 1989 احتمال تعذّر الرئيس المكلف تأليف حكومة جديدة، وطرح النواب حينذاك تقييده بمهلة محدّدة، يعتذر بعدها متى أخفق في التأليف. وسرعان ما جاروا وجهة نظر الرئيس صائب سلام بعدم تحديد هذه المهلة لئلا تفسّر تقييداً للتكليف، وذريعة لتعطيل دوره بإمرار الوقت، وانتقاصاً من مقام رئيس الوزراء وكرامته، آخذين في الاعتبار أن الاعتذار حتميّ عندما يخفق الرئيس المكلف في مهمته. وكانت تقيم في أذهان المجتمعين صورتان جليّتان للفراغ الحكومي والاعتذار. الأولى تشبّث الرئيس رشيد كرامي بتكليفه غداة استقالة حكومته في نيسان 1969ورفضه الاعتذار، وفي الوقت نفسه تأليف حكومة جديدة قرابة سبعة أشهر ونصف شهر انتهت في كانون الأول بحلّ لا يمتّ إلى المأزق الحكومي بصلة، هو توقيع اتفاق القاهرة. والثانية اعتذار رئيسين مكلفين، هما: سلام عام 1973 وتقيّ الدين الصلح عام 1981 عن عدم تأليف حكومة بسبب ضغوط تعرّضا لها. الأول من الرئيس سليمان فرنجية، مشترطاً توزير نجله طوني والآخر من دمشق، رافضة مسعاه تكرار تجربة 1973 عندما ألّف «حكومة كل لبنان»، أكبر حكومة لبنانية آنذاك (22 وزيراً)، وتماثل ما يسمى اليوم حكومة الوحدة الوطنية.
كانت البارحة أول رسالة إلى السنيورة من النائب غسان تويني الذي اخترق العقم السياسي باقتراح خيار الاعتذار، لئلّا يقال إن مسؤولية الإخفاق تقع على الموالاة أو المعارضة. بل هي مسؤولية الرئيسين، ثم مسؤولية الغالبية بإصرارها على الرئيس المكلف، ثم مسؤولية اتفاق الدوحة الذي ثبّت نصاباً غير قابل للحياة.