نقولا ناصيفرغم تشعّب الجدل المحيط بمأزق تأليف حكومة الوحدة الوطنية، وانتقاله إلى جوانب لا صلة لها بالمشكلة الأساسيّة كالتوسّع في تحديد الحقائب السيادية والمطالبة باعتذار الرئيس المكلّف فؤاد السنيورة، فإن الوجه الآخر من هذا الجدل يظلّ يرتبط بالمشكلة الأم التي انفجر معها الخلاف، وهي أي أمن ستشهده المرحلة المقبلة، وبمَن سياسيّاً وأمنيّاً؟ والمقصود بذلك أيضاً أي وزير للدفاع وأي قائد للجيش ومدير للاستخبارات.
بل المقصود طرح تساؤل أوسع: هل يُعزى تعذّر تأليف الحكومة الجديدة من خلال رفض المعارضة توزير إلياس المرّ في حقيبة الدفاع، إلى خلاف طارئ على خيارات المرحلة المقبلة، ولا سيما منها ما يتصل بالجانب الأمني؟
يقترن طرح هذا التساؤل بملاحظات، أبرزها:
1 ــــ بعد انقضاء شهر على انتخابه، لم يفلح الرئيس ميشال سليمان حتى الآن في تأليف أولى حكومات عهده، مع أن الظروف التي أحاطت بهذا الانتخاب أنبأت بتوقّع إبصار الحكومة النور سريعاً، لأن الحدثين كانا جزءاً لا يتجزأ من اتفاق الدوحة الذي حظي بتأييد عربي ولبناني جامع. بل أعدّت تسوية الدوحة كل أسباب انطلاق العهد الجديد برسم ملامح الأشهر القليلة الفاصلة عن انتخابات ربيع 2009، سواء بتوزيع حصص الحكومة الجديدة أو الإرضاء المتبادل للموالاة والمعارضة في تقسيم دوائر قانون الانتخاب. وفجأة اصطدم تأليف الحكومة بعقبة توزير المرّ في حقيبة الدفاع. بدأت المشكلة برغبة رئيس الجمهورية في إبقاء المر على رأس الوزارة، قبل أن تتحوّل إصراراً وتشبّثاً به إثر رفض الرئيس ميشال عون وحزب الله هذا التوزير. وإذا بتوزير المرّ يغدو المشكلة والحلّ في آن واحد، وأن كل ما يحدث لا يتعدى كونه اشتباكاً سياسياً لبنانياً.
2 ــــ يرتبط رفض توزير المرّ بالمسألة الأمنية التي تحمل المعارضة على الاعتقاد بأن وزير الدفاع يمثّل صورة الأمن الذي يُطَمْئن قوى 14 آذار ، فضلاً عن كون هذه تعدّه عضواً في فريقها. وهو أمر يجعل الحزب أكثر من أي وقت مضى يقارب الأمن بوجهة نظر مختلفة ــــ إن لم تكن متناقضة ــــ عمّا تفصح عنه الغالبية، ويحسبه التهديد المباشر الذي يستهدفه. في صلب هذا التخوّف، استبق حزب الله أي تطور حيال مصير مزارع شبعا بموقفين متلاحقين: فصله استراتيجيا التحرير عن الاستراتيجيا الدفاعية، وعدم ربط تخلّيه عن السلاح بتحرير تلك المزارع، وقد أضحت المقاومة وسلاحها بالنسبة إليه غاية لا وسيلة. بذلك يقوّم الأمن على أنه هو الآخر خيار، وليس أداة لأهداف سياسية. عند هذا الحدّ يفترق ما يقول به الحزب عمّا تتسلّح به قوى 14 آذار في اتفاق الدوحة، وهو أن المرحلة المقبلة هي للخوض في مصير السلاح.
3 ــــ يستعيد تمسّك رئيس الجمهورية بالمرّ الموقف الذي اتخذه سلفه الرئيس إميل لحود عندما تمسّك في أولى حكومات عهده عام 1998 بوالد وزير الدفاع الحالي النائب ميشال المرّ نائباً لرئيس الحكومة ووزيراً للداخلية. وهو تمسّك قوبل بردود فعل سلبية، وبعداوات واجهت الرئيس الجديد آنذاك من غير أن يأبه لها، رافقتها اتهامات حمّلت وزير الداخلية أوزار السنتين الأوليين من الحكم. فإذا بلحود يتخلى عن المرّ الأب بعد انتخابات 2000 ويوزّر المرّ الابن في الحقيبة نفسها. حينذاك تكرّرت فكرة الوزير الصهر، المستوحاة هي الأخرى من علاقة سلف السلف الرئيس إلياس الهراوي بالوزير الدائم لعهده صهره فارس بويز. وكما لبث الأخير طيلة حكم عمّه، استمر المرّان الأب والابن طيلة عهد لحود إلى أن أُبعد الصهر، بضغط سوري، عن حكومة الرئيس عمر كرامي عام 2004، قبل أن يُوزّر مجدّداً في الدفاع في حكومتي الرئيسين نجيب ميقاتي والسنيورة عام 2005.
ومع أن فكرة المصاهرة لا تتطابق مع سليمان ــــ إلا إذا كان ثمّة مَن يجتهد لجعلها مصاهرة سياسية ــــ فإن إصرار الرئيس على توزير المرّ في حقيبة الدفاع أضحى مشكلة للأول أكثر منها للوزير نفسه. بات الإصرار عليه في هذه الحقيبة يجعل تأليف الحكومة أمراً مستعصياً، والتخلّي عنه يصوّره البعض المتحمّس للرئيس ضربة قاسية له وعهده بالكاد بدأ.
4 ــــ يطلب رئيس الجمهورية وزارة الدفاع للمرّ وفاءً وإخلاصاً لوقوف الأخير إلى جانبه في الأشهر التي سبقت انتخابه، مع أن الرئيس يعزو الخيار إلى عامل الثقة الذي نشأ بين الرجلين في الأعوام الثلاثة المنصرمة، وارتياحه إلى تعاونه معه في المؤسسة العسكرية. وسواء رمى الرئيس إلى إطراء أو عبّر بدقة عن وجهة نظره هذه، فهو كان القائد الفعلي للوزارة والقيادة معاً إبان وجوده على رأس الجيش على امتداد تسع سنين، تعاون معه خلالها كل وزراء الدفاع المتعاقبين، وسلّموا بدوره المرجّح هذا، من الأكثر التصاقاً بسوريا كالوزيرين خليل الهراوي وعبد الرحيم مراد إلى الأقل التصاقاً كالوزيرين غازي زعيتر ومحمود حمود. أما المرّ فيطلب الوزارة لنفسه بسبب الدور الذي يطمح إليه في المرحلة المقبلة، وهو أن يكون في صلب السياسة الأمنية للجيش، ونافذته على العلاقة مع المجتمع الدولي والدول الغربية الراغبة في دعم الجيش وتسليحه وتعزيز قدراته، ومسؤوليته القانونية عن اقتراح القائد الجديد للجيش الذي يعيّنه مجلس الوزراء، فضلاً عن صلاحيته المماثلة بإصدار مرسوم تعيين مدير الاستخبارات بناءً على اقتراح قائد الجيش. يعني ذلك حاجة الوزير إلى أن يطمئن إلى مرؤوسيه، قائد الجيش ومدير الاستخبارات، كي يظلا بدورهما في عهدة رئيس الجمهورية. إذ سيفضي توزير المرّ إلى اضطلاعه بالدور المحوري في الفريق الوزاري الصغير المحيط برئيس الجمهورية، وسيمنحه نفوذاً كافياً للتأثير في وزارة الداخلية وهو يرأس وزارة الدفاع، الأمر الذي يعدّه للدور السياسي الذي يأمله في انتخابات 2009، بل في السنوات الست من ولاية سليمان. إنها الطموحات المشروعة في بيت اعتاد منذ عام 1990 أن لا يبرح مقعده في الحكم.
إلا أن المعارضة التي تملك، في أي حال، نصاب الثلث الزائد واحداً لمنع تعيين قائد للجيش لا ترتاح إليه، تتصرّف أيضاً على أساس أن لا يكون ثمّة قائد للجيش ومدير للاستخبارات قريبين من قوى 14 آذار. وهو فحوى إصرار عون على الدفاع حقيبة سيادية تبعاً للمبرّرات نفسها التي تجعل المرّ الابن يطلب توزيره في هذا المكان.