خطاباتهم تلعب الدور الأول في تغذية الاحتقان وشحن النفوسنسرين زهر الدين

اللائحة تطول، وتبقى القضية هي نفسها، التحريض الطائفي والمذهبي يلوّث الجو ويحكم القرارات الفردية والجماعية. كلما حاول الناس التنفس، جاءهم صوت «القادة» الدينيين والزمنيين شاحناً ومهيّجاً، طائفة تهاجم طائفة، ويعود الاشتباك إلى المربع الأول، والعزف على الوتر الطائفي مع جوقة المنفّذين، كل من موقعه. والثمن ـــــ كالعادة ـــــ يدفعه المواطن.
هل قضية إقالة العميد وفيق شقير تختزل واقع الشيعة في لبنان حتى يعتبر المس بـ«جلالته» مساً بالطائفة؟ وهل شعار تحصيل حقوق السنّة في لبنان أخرج أبناء حي التمليص من الفقر المدقع، وأوصل إليهم ـــــ على عجل ـــــ إيرادات مشاريع سوليدير؟ وهل كل سكّان الضاحية المقهورون هم من فقراء الشيعة دون سواهم؟ وهل التخويف من هجوم الشيعة على الجبل أنقذ القرى الدرزية من الفقر وحيتان المال، وحفظ تاريخ بني معروف العروبي والقومي وصان أعراضهم وممتلكاتهم ؟
تعالت أخيراً أصوات الخطابات التحريضية على أساس مذهبي، وأبرز أبطالها رجال الدين، مكملين ما بدأه بالتصريحات والتصرفات زعماء الطوائف ورجال السياسة التابعون لهم. وفي استعراض للمواقف المتشنّجة، لا نزال نذكر كلام مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني تعليقاً على أحداث بيروت: «حزب الله يقوم بمحاولة الهيمنة على لبنان بدعم خارجي تحت غطاء المقاومة»... «من المؤسف والمحزن أن تتولى دولة إسلامية تمويل كل التجاوزات التي تسيء إلى وحدة المسلمين اللبنانيين»... «أهل السنّة ضاقوا ذرعاً بالتجاوزات، اللهم فاشهد أني بلّغت». صدر هذا الكلام بعيد الأحداث التي احتاج أهالي بيروت جراءها إلى خطاب يطيّب خواطرهم ويهدئ نفوسهم، فجاء خطاب المفتي كمن يصب الزيت على النار ويعمّق «الجرح البيروتي». غير أن ابن بيروت م. ط. مثلاً يعتبر أن خطاب المفتي صحيح تماماً لجهة الحفاظ على حقوق أهل السنّة في وجه من يجتاح بيروت من «الزعران».
سبق هذا الخطاب كلام لنائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان يندرج في سياق الفرز المذهبي، عندما نوّه بأداء جهاز أمن المطار الذي يديره العميد وفيق شقير، معتبراً أنه «لا يجوز الافتراء على مقامه ومكانته (...) ومن يعتقد أنه قادر على إقالة هذا الجهاز وقائده فهو واهم». ودعا السياسيين إلى «مراجعة حساباتهم» والتجاوب مع مبادرة الرئيس بري وقتها. ساهم قبلان بهذا الموقف في تأجيج المناخ المذهبي وبدا كأنه دفاع عن موظف، لا لشيء، إلا لانتمائه الشيعي، بل الشيعي السياسي تحديداً. يقول م.س. إنه عندما يسمع قبلان يعرف ماذا يريد أن يوجّه بري والسيد حسن نصر الله من رسائل، فخطابه مرآة لمواقفهما.
قبل ذلك كان النداء السابع لمجلس المطارنة الموارنة عام 2006 حين لاحظوا «أن التوازن السياسي الذي تقوم عليه صيغة العيش المشترك قد فُقد، بحيث شعر المسيحيون بأن مشاركتهم في مصير البلد قد أصبحت هامشية نتيجة غياب دور الرئاسة الأولى (...)». واللافت أن الرئيس إميل لحود كان لا يزال يشغل هذا الموقع. ورأى النداء «أن هناك جماعات تتفرد بالقرار فتأخذ البلد حيث لا يريد (...) وقد دفع الوطن من أمنه وازدهاره وراحة أبنائه ثمن تفرد هذه الطائفة أو تلك من اللبنانيين بالقرار، فيما القرار يعود إلى الدولة وحدها». وفي اعتقاد مجلس المطارنة ـــــ على ما يبدو ـــــ أن كلاماً كهذا من شأنه أن يعيد الفاعلية إلى دور الطائفة المسيحية.
مثال آخر هو حديث شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في خلوات القطالب إبان أحداث الجبل الأخيرة في أيار الماضي، حين قال: «يا بني معروف لم تتعود طائفتنا على الخنوع والركوع إلا للرب المعبود وحده لا شريك له» في إشارة إلى مقاومة محاولة الدخول إلى الجبل ،معقل الدروز، وإخضاعه بالقوة أو بالتهديد.
وأخيراً في حوار لـ«روز اليوسف» المصرية، خطاب تحريضي آخر لمفتي جبل لبنان، الشيخ محمد على الجوزو، إذ شن هجوماً على الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، قائلاً: «لا تصدقوه، لأنه مجرد دمية فى يد ملالي إيران... فحسن نصر الله ممثل مسرحي كذاب ومخادع يشتري شباب السنّة، مغرور غير جدير بالثقة يكره السُّنَّة ويؤمن بأن التاريخ بدأ معه وسينتهي عنده. أشهر سلاحه في وجه السنّة وانتهك أعراضهم وحرماتهم». وعن المقاومة قال: «لن يزايدوا علينا بالمقاومة لأننا قاومنا الاحتلال الصهيونى قبل أن يولد نصر الله أو تظهر إيران على الساحة الدولية. أنصار نصر الله معقدون متعصبون حاقدون على السُّنَّة يتلذذون بالإساءة للصحابة ورموز الإسلام. يقدّمون الخميني على النبي محمد» . متسائلاً: «هل يعقل أن تذبح الناس ثم تعود لتعتذر لأنك ذبحتهم بشكل غير لائق؟!». أضاف:«حزبه أكذوبة صنعتها سوريا بهدف بناء الإمبراطورية الفارسية في بلاد العرب. حسن نصر الله أنهى الدولة تماماً، ثم تجاوز التاريخ العروبي للطائفة السنية متبنياً مقولة المارونية السياسية في تحليلها للحرب الأهلية الماضية».
من جهة أخرى، تؤيد بعض المراجع الدينية عدم تدخل رجال الدين في السياسة وإدارة الدولة. إذ يعترف المطران جورج خضر في جريدة «النهار» في أيار الماضي بأن «الكنيسة مكان للتطهر وأسلوبها الأساسي التعليم والوعظ وتقديس النفوس، وليس إصلاح الخطاب السياسي. هي شيء مختلف، ليس فقط عن الدولة، لكن عن الوطن أيضاً. فالدولة حاكمة قسرية والكنيسة لا تحكم ولكنها تراقب الوطن». ويشير العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله في بيان له إلى «أن المسؤولين الدينيين الرسميين يتدخلون في كل شاردة وواردة سياسية ولا يتورعون عن تغطية هذا الفريق أو ذاك، وقد يشكّل بعضهم جزءاً من الحركة السياسية لمصلحة فريق بعينه، ومعظم هؤلاء يعمل على إدارة اللعبة السياسية ويمسكون بخيوطها، ويتدخلون في التفاصيل حتى وهم يتحدثون عن ضرورة عدم تدخل رجال الدين في السياسة». يضيف فضل الله: «إن هذا التدخل الواضح والحاسم لهؤلاء في مواقعهم الدينية الرسمية العليا، يوحي، ومن خلال طبيعة النظام الطائفي، أن رجال الدين هم حكام لبنان، وأن النظام الطائفي يحمي هذه الحاكمية بطريقة وأخرى، ويفسح في المجال لهم لدعم هذا التيار السياسي أو تلك الشخصية، ما يحمل على الاعتقاد بأن رؤساء الطوائف هم ساسة لبنان، وهم الذين يتحركون في علاقاتهم وتدخلاتهم ليساهموا في تعقيد أكثر من مشكلة أو في حل أكثر من عقدة».
لم يعد من رادع لنزعات المواطنين العدائية تجاه آخرين من طوائف أو ملل أخرى، أو خط سياسي مختلف عبر «فش الخلق» والرد على الاستفزازات بمثلها، وربما بأفعال تنذر بالكثير من الخطر وتؤدي إلى انفجار قد لا يقوى أي من أجهزة الدولة على احتوائه، أو أي من المنظرين السياسيين والمحللين على توقع فداحة ما يمكن أن يؤدي إليه. إذ بات تابع هذا المذهب أو ذاك يملك الحجة والفتاوى الدينية التي توفر له الغطاء والدعم للاعتداء بذريعة الدفاع عن النفس!
لم يتسم لبنان منذ نشأته بملامح علمانية في الإدارة السياسية لشؤون الدولة، وقد كرس الاستعمار دور رجال الدين، أو، بالأصحّ، دور الطائفية في اختيار الزعماء السياسيين ورسم الخطوط العريضة لسياسة الدولة الداخلية والخارجية. وحافظت العهود المختلفة على هذا النهج وكرسه دستور الطائف، فضلاً عن الأعراف. وعوض أن يشكّل التنوّع الروحي غنىً للبنان في إطار الديموقراطية، تحوّل إلى ألغام يفجّرها المفجّرون ساعة يشاؤون. والمفارقة أن الناس، حينما تسألهم فرادى، يتبرّأون جميعاً من التعصب الطائفي، حتى ليظن المرء نفسه في جمهورية فاضلة. والأساس في الأمر أن الناس قد يكونون بالفعل غير طائفيين إلى الحد الدموي، لكن كيف الخلاص من الممسكين بزمام الألغام؟


القدح والذم

يتضمن القانون اللبناني مواد تشير إلى القدح والذم وأي خطاب يتنافى مع صيغة العيش المشترك.
ورجال الدين ليسوا استثناءً في هذا الخصوص، رغم أن القانون والدستور يجيزان لهم ولعامة الشعب الحق في التعبير، لكن هذا الحق مشروط بعدم إثارة النعرات والقدح والذم وعدم مخالفة الأصول.
فالمادة 317 من قانون العقوبات اللبناني تجرّم «كل عمل وكل كتابة وكل خطاب يقصد منها أو ينجم عنها إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة».
وتضيف المادة نفسها أن من يقوم بهذه الأفعال «يعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من مئة ألف إلى ثمانمئة ألف ليرة».