عمر نشّابة«قرّب يا مرسيدس... خلّصني!» صراخ مهما علا لن «يخلّص» شرطي السير في المدينة من الشمس الحارقة والرطوبة التي ارتسمت بقعاً من العرق أصبحت جزءاً شبه دائم من بزّته الرسمية. تقترب دراجة نارية من الشرطي. «صباحو يا دولة» يقول السائق الشايب ويكمل مسرعاً. الرجل خمسيني لا خوذة على رأسه وهو بطريقه ربما إلى المدرسة ومعه طفل لا يتجاوز عمره خمس سنوات، يحمل على ظهره حقيبة أصغر منه بقليل. وبيده «عروس» لبنة.
تعلو فجأةً صفّارات الإنذار وترتسم معها علامات توتر على وجه الشرطي الشاب. يعطّل مسارات عشرات المواطنين ليفتح الطريق لصاحب الصفّارات. يلتزم الجميع بالأوامر ويحاول بعضهم إقناع نفسه بأن الأمر يتعلّق باحترام النظام. لكن «أيّا نظام أياّ بطّيخ... حلّو عنّا بقا...» يتمتم سائق سرفيس يتصبّب منه العرق لدرجة استدعت منشفة لفّها حول عنقه.
لحظات ويتبيّن للناس أن كلّ هذه «الطوشة» لم تكن لآلية إطفاء حرائق أو سيارة إسعاف تنقل مريضاً يحتاج إصفارات إنذار ليصل سريعاً إلى غرفة العناية، بل شخصيات متعالية معروفة تتنقّل في علب مصفّحة ومبرّدة خلف زجاج أسود، وكأنّها تتدرّب على توابيت القبور. علب بلوحات تسجيل عسكرية أو مدنية أحياناً يرافقها من يشهر السلاح من النوافذ ويصرخ على الناس ويلوّح بيديه آمراً بتوقف السيارات وغير آبه بشرطي السير الذي يرى الموكب الأمني أنّه غير ذي قيمة تذكر.
وبعد مرور أشباه التوابيت، يقرّر الشرطي أن يفشّ خلقه ... يرفع العصا البرتقالية بجدّية ثم يشير بها إلى سيارة «هوندا» لم تمتثل لإشارة السير الحمراء. يقترب الشرطي بشهامة نحو السيارة، تفتح سيدة النافذة بالسرعة نفسها لإيقاع مشيته نحوها. تلتفت راسمة ابتسامة عريضة دون أن تخلع نظّارتها الشمسية. لا تتنبّه «الدولة» للجزء الأعلى من جسم المواطنة. عينا الشرطي تفتّشان عن شيء ما داخل السيارة لا نعرفه. لربما كانت تحمل مسدّساً على وسطها أو أن لمفاتن المواطنات قوة لا تقهَر. يطلب دفتر السيارة ورخصة السوق. تتغيّر ابتسامة المواطنة إذ يتخلّلها عضّ شفاه، وتمدّ يدها لتسلّمه الأوراق. يبتعد عن الباب ليتمكن من التدقيق بلوحة التسجيل في مقدمة السيارة. يلتفت الشرطي نحو السيدة ملوّحاً بالأوراق ومهدّداً باتخاذ أقصى الإجراءات بحقّ متجاوزي القانون والنظام، لكن ابتسامته لا تقابل إلا بابتسامة. ابتسامة لا خيار بديل عنها فحتى ولو لم تكن صادقة، هي التي تصبغ علاقة المواطن بالدولة.
تنطلق «الهوندا» بعيداً دون أن تلقي السائقة في المرآة نظرة أخيرة على الشرطي الذي عاد إلى أتعابه تحت الشمس الحارقة.