جان عزيزفجأةً تبخَّرت كلُّ البالونات الحرارية التي أطلقتها الحركةُ الأميركية الإسرائيلية في الأجواء اللبنانية.
قضية مزارع شبعا تراجع الحديث عنها. كلام رايس تحول نوعاً من تسجيل موقف مبدئي. وفي نيويورك تنوّعت ردود الفعل حيال اللهجة الأميركية الحاسمة قبل أيام. فبعد اجتماع وزيرة خارجية واشنطن مع الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، تباينت المواقف. سارع زلماي خليل زاد إلى تحديد شبه مواعيد لطرح القضية على مجلس الأمن. فيما رد المسؤولون الأمميون بأنه ليس من صلاحية المنظمة ولا من واجباتها ترسيم الحدود بين الدول. طوي الموضوع، أو هكذا يبدو.
البالون الحراري الاختباري الثاني، كان مسألة تبادل آخر الأسرى بين إسرائيل وحزب الله. فبعد ارتفاع في منسوب استحقاقاتها المرتقبة، وبعد تخمين بمواعيد وشيكة، عاد الملف إلى قنواته السرية، في ظل مؤشرات تَعَثُّر من الجانب الإسرائيلي، وانخفاض الكلام الألماني حول القضية.
الحركة السورية الأوروبية، وتحديداً السورية الفرنسية، خفتت من جهتها أيضاً. تراجع الانفتاح الساركوزي عن نية سابقة بإقران دعوة القمة من أجل المتوسط، بدعوة ثانية لحضور الرئيس السوري العيد الوطني الفرنسي وعرض الشانزيليزيه، مع ضيوف الشرف. وفي المقابل تراجعت حملة الانتقادات الأميركية لخطوة باريس. في مكان ما، بدا أن ثمةَ تطبيعاً حصل بين فرنسا والولايات المتحدة، حول حدود الانفراج الجزئي والمحدود والمشروط بين باريس ودمشق.
حتى شائعات الموفد القطري الواصل إلى بيروت لإعادةِ إحياء حرارة الدوحة، انطفأت، بعدما تحوَّلَت طيلةَ أسبوعين تكراراً يومياً، وشائعةً يومية. هكذا ظهر لوهلة، وكأنَّ المطلوبَ هو التكيُّف مع فراغ نظامي من نوع جديد: رئيسٌ لا يرأس. ومجلسٌ لا يجلس. وبقايا حكومة لا تحكُم.
ما هي الحسابات التي قد تكمن خلف سيناريو مفترض كهذا؟
التقديرات الأولّية تشير إلى حسابين شبه مكشوفين، لدى فريق السلطة:
أوّلاً على مستوى الداخل اللبناني، يبرز حساب فريق السلطة، بمحاولة استدامة الوضع الراهن. وهو وضع يستبطن رهانات عدة:
الرهان الأول هو استمرار الاهتراء الأمني وبالتالي العسكري، بما يؤدي ــــ بحسب حسابات الموالاة ــــ إلى تسليط مزيد من الضوء الداخلي والخارجي على قضية سلاح حزب الله، وذلك من زاوية اتهام هذا السلاح بالتورّط في كل الحوادث الأمنية المتنقلة بين المناطق اللبنانية. الرهان الثاني، هو استمرار التعبئة السنّية لمصلحة الفريق الحريري. وذلك على خلفية رفع شعارات الخوف والتهويل بقميص بيروت وأهل الجماعة وسواها من شعارات الحشد المذهبي. وهو ما بدا كأنه استفاد من بعض هفوات المعارضة في هذا المجال، كما من النتيجة التي آل إليها القانون الانتخابي المتفق عليه في الدوحة للعاصمة بيروت، من أجل دفع الحريريين إلى تسكير الساحة السنّية على تأييدهم الحصري، ولو تحت خطاب عددي مطلق. الرهان الثالث، هو نقل حالة التوتير السنّي ــــ الشيعي، وخصوصاً السنّي ــــ العلوي، على طول الحدود مع النظام السوري. وذلك بخلفية نقل العدوى إلى الجانب الآخر من الحدود. وهو ما يعدّه الحريريون منذ أعوام، سلاحاً موجعاً ضد دمشق.
أما الرهان الرابع، فهو استمرار استهداف الساحة المسيحية، آخر الساحات المتحركة انتخابياً، أو الرمادية نسبياً. بمعنى، أن استمرار الاشتباكات الأمنية والعسكرية، قد يؤدي بحسب اعتقاد الحريريين، إلى كسب شعبي لمسيحيي قريطم، على حساب ممثّل الأكثرية المسيحية المطلقة، العماد ميشال عون.
غير أنه خلف استدامة الوضع الفراغي الجديد، يبرز حساب آخر أهم وأخطر، وهو عودة الحديث عن ضربة أميركية إسرائيلية مشتركة لإيران. ففي 4 حزيران الجاري، وفيما كانت الرياض تستضيف مؤتمراً حول الحوار بين المذاهب الإسلامية، دعت إليه رفسنجاني وأصرّت على مشاركته، كان إيهود أولمرت يخرج من البيت الأبيض، ليعلن توصله إلى اتفاق مع جورج بوش على «الحاجة إلى معالجة التهديد الإيراني»، وليؤكد الاتفاق على القيام بخطوة ما «قبل نهاية عهده في البيت الأبيض». بعدها بدأت ماكينة تسويق الخطوة في الوسطين الإعلامي والسياسي في واشنطن، وبلغت قبل يومين حد إعلان نيويورك تايمز، عن التدريبات على الضربة الجوية. هكذا بدا أن الرهان الانتظاري على زلزال المنطقة، قد عاد ليحدد قسماً كبيراً من المواقف الداخلية.
هل ينجح المخطط؟ عقبات التنفيذ تبدو كبيرة وكثيرة. في العاصمة الأميركية بدأ كلام مضاد عن إمكان عزل بوش، في حال اتجاهه إلى توريط بلاده في «مغامرة عراقية» ثانية. وفي بيروت، المعارضة بدت مُدرِكَةً لما يستهدفها، فبادرت إلى الهجوم على محورَين: حسم تكليف السنيورة، إما بالتأليف وإما بالاعتذار، وحسم قضية قانون الانتخاب في المجلس النيابي: فمَن أصبح من أبناء السيادة مدعوٌّّ إلى ساحة النجمة، ومن لا يزالُ من أيتام غازي كنعان، فليمنَع إقرارَ القانون، تماماً كما فعل قبل ثلاثة أعوام.