تتعاقب الحكومات، ومعها وزراء العدل، وتبقى حال أكثر المحاكم في لبنان على ما هي من سوء، فيما يستمر القضاة بالعمل صامتين. فهل ينوي المتهافتون على المطالبة بالوزارات إصلاح بعض ما أصاب العدالة؟
حسن عليق

يقترب رجل يرتدي بزة قوى الأمن الداخلي من شاب يمسح الأحذية على الرصيف الضيّق. يضع حذاءه العسكري الضخم على العلبة السوداء من دون التلفظ بأي كلمة. يلمّع الشاب حذاء رجل الأمن الذي يرحل صامتاً. لم يدفع ألف ليرة بدل تلميع حذائه «الأميري». هنا العدلية. المنطقة التي أخذت اسمها من وزارة العدل وقصر العدل في بيروت. وماسح الأحذية كان، صباح أمس على الرصيف المقابل لمدخل الوزارة، يجمع فتات المال قوتاً لعائلته. رجل الأمن لم يدفع. كان خارجاً من قصر العدل.
قصر العدل لم يشهد تغييرات جذرية في السنوات الماضية، سوى تشديد الإجراءات الأمنية التي وصلت إلى ذروتها منذ بداية الأسبوع الجاري. وفضلاً عن كاميرات المراقبة التي زُرِعَت في كل أروقة القصر وقاعاته (باستثناء قاعات المحاكمة)، أضافت قوى الأمن الداخلي أول من أمس باباً إلكترونياً لكشف المعادن إلى المدخل الذي يصل قصر العدل ببيت المحامي، وأخضعت للتفتيش الدقيق كل المحامين العابرين. كما أقفلت القوى الأمنية الباب الشرقي الذي كان مخصصاً للقضاة والمحامين.
وبعيداً عن الإجراءات الأمنية، كانت الأيام الأخيرة «استثنائية» في بيت العدالة. فقد طرأ تحسّن ملحوظ على مستوى النظافة. وباستثناء مئات أعقاب السجائر وعشرات فناجين القهوة البلاستيكية المتناثرة على أرض الممرات والقاعات، تلمع أرضية القصر كحذاء رجل الأمن الذي لم يدفع أجرة ماسح الأحذية. لا تفسير للنظافة النسبية المستجدة، سوى ما قاله بعض الخبثاء: وزير العدل يريد توديع القصر «على نظافة».
النظافة نسبية إذاً. وخلف تمثال القانوني الفينيقي الذي يتوسط قاعة الخطى الضائعة، لا تزال المقاعد المكسّرة والكراسي المهترئة في مكانها، وتحوّلت المساحة الواقعة تحت الدرج إلى «مستودع» للخردة ولأكياس بلاستيكية تحوي ملفات وأعداداً قديمة من الجريدة الرسمية.
التغييرات لا تقتصر على النظافة. القرارات والأحكام القضائية القديمة كانت توضع في أكياس معدة أصلاً لتعبئة الطحين والأرز والقمح. وكانت هذه الأكياس مجمّعة في عدد من أقلام المحاكم، قبل نقلها إلى المستودع التابع لقصر العدل. أما القرارات الحديثة نسبياً، التي يعود بعضها لأكثر من عشر سنوات، فلم يشملها «نظام الأرشفة» المذكور. وهي لا تزال مكدّسة من دون أي تنظيم أرشيفي دقيق على رفوف وفي خزائن الأقلام التي يغطيها الغبار.
قاعات المحاكم لم تتبدّل حالها بعد. الأسقف المستعارة التي سقطت بمرور الزمن لم تُستبدَل، وآثار نشِّ الشتاء الماضي لم تُعالَج، والستائر الملتوية لا تزال كما كانت قبل أعوام طويلة. أما النوافذ التي لا يمكن إقفالها لتخفيف الضجيج المتسلل إلى قاعات المحاكم من الطريق المجاور، فلم تتكلّف الدولة عناء صيانتها. ولا تزال القاعات غير مجهزة بمكبّرات صوت، ولا بنظام إنارة يضفي إضاءة كافية على سير العدالة، ولا بأجهزة تبريد أو مراوح. وخلال عدد من الجلسات التي عُقِدّت أمس، كان القضاة والمحامون والمتقاضون والموقوفون الذين أنهكتهم رحلة النقل من السجن إلى المحكمة، كانوا جميعاً يتصبّبون عرقاً لم يجدوا سبيلاً لتخفيفه سوى باستخدام أوراق للتهوية. نظام التبريد الغائب رغم حضور التمديدات الخاصة به، يمثّل مصدر إزعاج للعاملين بشكل يومي في قاعات المحكمة، وأبرزهم القضاة والكتبة. وهؤلاء محكومون بقانون الصمت.
أما مكاتب الموظفين التي ضاقت بالملفات، فلا يزال النش «يأكل» طلاء جدران عدد كبير منها، مضيفاً إلى جوّها رطوبة تضاف إلى رطوبة الطقس.
مشاورات تأليف الحكومة جارية على قدم وساق. والعقدة الأبرز التي تؤخر صدور التشكيلة الوزارية هي توزيع الحقائب على الكتل السياسية. لكن، كما جرت العادة في لبنان، لم يُقدّم أي طرف برنامجه للعمل في الوزارات التي يطالب بها، ويصر على أن تكون من حصته. وبالتحديد، المطالبون بوزارة العدل، لم يذكر أحد منهم برنامجاً لتحسين شكل قصور العدل على الأقل، وجعلها مكاناً لائقاً للحكم باسم الشعب الذي يمثّلونه.