ترجمة وإعداد رنا حايك إذا دخلت أي سوبرماركت في لبنان، وقمت بجولة مسح سريعة بعينيك على الرفوف، فسوف تلاحظ وجود المنتجات ذاتها في جميع المحالّ. من الممكن أن تجدها أيضاً خارج لبنان، من أفريقيا إلى آسيا، تحتلّ الرفوف، وتتصدّر قائمة النظام الغذائي للأهالي. تتضمن هذه المنتجات الزيت النباتي (وخصوصاً زيت الصويا)، الأرزّ والطحين، لكنها تشمل أيضاً الجبن المصنّع، الحلويات والسكاكر، البسكويت والحبوب المصنّعة من الذرة. المثير للانتباه هو أن جميع هذه المنتجات تتألف من المحتويات الأساسية ذاتها: الصويا، زيت النخيل، الذرة، السكر والأرزّ. معظم هذه المواد لم تكن منتشرة في لبنان قبل أواسط القرن الماضي، لكنها أصبحت اليوم في أساس نظامنا الغذائي، وتمثّل النسبة الأكبر من مجمل المواد التي نستوردها والتي تصل إلى 80% مما نستهلك.
كيف حدث هذا التحوّل؟
ترتبط معظم الأنظمة الغذائية الصناعية السائدة اليوم بالتحولات المفصلية التي نتجت من لحظات سياسية وتاريخية مهمة في الماضي القريب: تحديداً، بقيام وسقوط الإمبراطوريات.
في البدء، حوّلت الطموحات البريطانية الإمبريالية منتج السكر من مستعمراتها إلى دورة الرأسمالية الناشئة خلال مرحلة الثورة الصناعية. لاحقاً، طوّرت سلطات ما بعد الحرب في أوروبا منتجات دهنية جديدة كالزبدة وسيطرت على أسواقها. أما اليوم، فنحن نخضع للنموذج الأميركي لما بعد الحرب الباردة، إمبراطورية يحكمها القطاع الخاص، تمدّدت سيطرتها الغذائية لتشمل كل أصقاع العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
يتخصّص هذا النموذج في تعميم أنظمة غذائية تعتمد على المحتويات ذاتها، وهي محتويات حدّدها الفائض الزراعي للولايات المتحدة وتحكم تجارتها بعض الشركات مثل
Cargill, ADM, Bunge ومقرها في الولايات المتحدة. يفسّر ذلك واقع أن الولايات المتحدة هي المصدّر الرئيسي للبنان في مجال الأغذية.
يتجه نشاط هذه الشركات إلى التوسع أكثر فأكثر في البلدان النامية، وفي الصين خاصة، ويرتكز على تعميم النظام الغذائي المتّبع في العالم الصناعي الغربي، المعتمد على الوقود الأحفوري وعلى الاستهلاك المفرط للحبوب.
كيف توصلت الشركات في الولايات المتحدة إلى إحكام سيطرتها المطلقة على سوق الغذاء العالمي؟
خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية دون أن يمس نظامها الزراعي أي مكروه فيما كان الخراب قد حل في مزارع حلفائها الأوروبيين وعدوتها ألمانيا. بعدها مباشرة، وفي ظل وجود ملايين الجياع في عالم ما بعد الحرب، أعلنت الولايات المتحدة مشروع مارشال الذي يهدف إلى المساعدة في إعادة بناء أوروبا الغربية. إلا أن المساعدة لم تكن هدف مشروع مارشال الوحيد: فقد لحظ المشروع إلغاء الحدود الجمركية التي قد تقلّص من إمكان تسلّل الولايات المتحدة إلى أسواق الدول غير الشيوعية.
أنفقت الدول الأوروبية تحت رعاية مشروع مارشال بين عامي 1947 و1952 أكثر من 3 مليارات دولار من أصل 13 مليار تلقّتها كدعم، على استيراد الغذاء والعلف الحيواني والمخصّبات من الولايات المتحدة ذاتها.
اهتمّت الولايات المتحدة خصوصاً بتسويق استخدام الصويا، الذي كان لم يزل غير معروف في أوروبا، لكن ينتجه المزارعون الأميركيون بكثافة.
وبينما تعافت أوروبا، كانت برامج المساعدات الغذائية الأميركية الأخرى قد بدأت تشجّع على تصدير الصويا إلى دول أخرى، كلبنان وباقي البلدان العربية.
في عام 1967، 86% من منتج الصويا الأميركي المصدّر كان مدعوماً من الحكومة الأميركية.
بكلمات أخرى، أدت استراتيجية الحكومة الأميركية إلى المحافظة على تدني أسعار المكوّنات الخام للنظام الغذائي المعاصر، ما خدم مصالح الشركات العالمية.
خلق التصدير الأميركي عادات استهلاكية جديدة، وكانت الشركات التجارية العملاقة التي يقع مقرها في الولايات المتحدة هي المستفيد الفعلي من هذا الدعم الحكومي. لأن الدعم سمح لهذه الشركات باستيراد الحبوب بأسعار أقل من تكلفة إنتاجها، ما جعل منافسة البلدان الأخرى مستحيلة، فيما يجري إعادة جلب الفائض المالي من الأسواق الخارجية إلى السوق الداخلي.
تطابق هذه الآلية العلاقة التي كانت قائمة بين الإمبراطوريات السابقة ومستعمراتها التي أدت إلى تدمير الأنظمة الغذائية في معظم الدول النامية.
لم ينج لبنان من هذا القدر، فحكوماته المتعاقبة قد آثرت استيراد الغذاء الرخيص بدل الاستثمار في الإنتاج الزراعي المحلي. إلا أن الارتفاع في العالمي لأسعار الغذاء يفرض اليوم مقاربة جديدة، مقاربة تتضمّن حكماً، وكخطوة أولى، تغييراً جوهرياً في العادات الغذائية والاستهلاكية، يوازنه إعادة إحياء للنظام الغذائي اللبناني التقليدي حيث تؤدّي الحبوب والخضراوات والفاكهة دوراً أساسياً.