لم يستفد من اغتيال الحريري غير المشروع الأميركي!محمّد الحاج حسن سائق أجرة. لهجته البقاعيّة تميّزه. رقيق وحاسم. سريع البديهة وصاحب مواقف مبدئيّة. المقاومة عنده مقدّسة، كذلك الضاحية الجنوبيّة. لا يبدأ يومه إذا لم يقرأ جريدة أو يستمع إلى أقوال الصحف. يذكر أسماء هذا وذاك من الصحافيين. يتحدث عن الارتباطات السياسيّة والماليّة لبعضهم، ثم يقول إن آخرين أصدق
ثائر غندور
لا يعرف الصحافيون من هو محمّد الحاج حسن. هو سائق الأجرة الذي أوصل العشرات منهم مرّات عديدة من أماكن عملهم إلى منازلهم أو أماكن سهرهم. لكنّه هو يذكرهم. يفتخر بالأمر، لكنه يخجل عندما يذكر أسماءهم. تواضعه الكبير وخجله يدفعانه إلى طلب إقفال باب الغرفة قبل الحديث، ويرفض الكلام عن تفاصيل حياته الشخصيّة. ربما هو يتصيّد هؤلاء الركّاب أو هي الصدفة. لكنّ علاقته بالصحف ليست مجرّد صدفة بل قرار.
«أول لمسة مباشرة لهذه الأوراق كانت في عام 1990 أو عام 1991، عندما اشترى أخي الجريدة لمعرفة نتائج الامتحانات الرسميّة التي كانت تجري بعد انقطاع، وكان بطرس حرب وزيراً للتربية». لم تكن اللمسة الأولى موفّقة، إذ لم يكن اسمه وارداً بين الأسماء.
انتظر ثلاث سنوات حتى يتجدّد اللقاء مع الجرائد. ففي 1994، حين كان عمره 19 عاماً، «أقنعني الشاعر علي الحاج حسن بالخروج مما سمّاه القوقعة، وجاء بي إلى بيروت حيث عملت مع الحزب القومي الذي لم أكن أعرف شيئاً عنه، وكان يرأسه إنعام رعد».
ويتحدّث محمّد بحماسة عن رعد، الذي «كان متواضعاً جداً». في مركز القومي بدأ يقرأ يومياً جميع الصحف التي كانت تصل إليه، كذلك قرأ كتب أنطون سعادة وجبران جريج ولم يخضع لحلقات إذاعيّة. لكن علاقته بالكتاب لم تنمُ مثل العلاقة بالصحف. الكتاب الوحيد الذي جذبه عنوانه: «التربيّة اليهوديّة الصهيونيّة». اشتراه عندما كان يعمل في معرض بيروت للكتاب العربي والدولي، لأنه كان أكثر الكتب مبيعاً في جناح الحزب القومي. عام 1997 ترك مركز القومي حتى يشعر بحريّته. منذ ذلك الوقت امتهن قيادة سيارة أجرة ليلاً، وتمكّنت منه «سوسة الصحف».
قراءة الجرائد بالنسبة إليه تعني معرفة ما يجري في كواليس السياسة اللبنانيّة: كيف حصل هذا اللقاء، ومن كان الوسيط. لماذا اتصل فلان بفلان وماذا دار بينهما... أوصلته هذه القراءات إلى مواقف واضحة جداً في السياسة. كان يسمع عن مشروع الرئيس رفيق الحريري، وأنّه يعمّر لبنان، «وكنت أقول لهم هو يعمّر سوليدير لا كلّ لبنان. وبرأيي عليهم أن يعمّروا المدرسة والجامعة أولاً لا الجامع أو الكنيسة». هكذا يقولها ببساطة، محاولاً شرح نظريته في الاقتصاد: فتح الأفق وتوفير فرص التعلّم والتطوّر هما اللذان يبنيان المجتمع ويطوّرانه، «فالمدرسة هي التي تعمّر الجامع والطريق والمطار». هذه كانت مشكلته مع الشهيد رفيق الحريري أو «الشهيد السياسي الأول لحزب الله». فهو يعتقد أن قتل الحريري فتح المجال أمام المشروع الأميركي في لبنان، أي المطالبة بسحب سلاح المقاومة. كما أن خروج الجيش السوري، الذي لم يكن مؤيّداً له، فتح الطريق أمام حرب تمّوز.
عند ذكر حرب تمّوز تنفرج أساريره. يعدّها انتصاراً أعاد رسم الحياة السياسة، «انتصاراً جعل العالم كلّه يسمع بالضاحية الجنوبية». هذه المنطقة التي لم يكن كلّ اللبنانيين يعرفونها مصدر فخر له، «اكتب أني أسكن في حيّ السلم بكلّ اعتزاز». عند سؤاله إذا كانت هي أهم له أو البقاع يجيب: عندما يقولون شهيد من البقاع أقول لهم: وُلد في البقاع وترعرع في الضاحية واستشهد في الجنوب. يعتبر أن الضاحية هي الممرّ الأكيد للشهادة والبطولة. مرّة ثانية، وبدون قصد، يُحدّد المناطق الاستراتيجيّة للمقاومة، أو مثلث صمودها وانتصارها: البقاع، الضاحية والجنوب.
حبّه لسيّد المقاومة حسن نصر الله كبير، فهو البطل والقائد. أمّا لماذا لم يُصبح هو مقاوماً فيضحك ويقول: قلت لك الضاحية هي الممر، بما فيها من إيمان وتديّن.
خلال حديثه عن المقاومة، يؤكّد كل فترة أنه ليس طائفياً، «فأنا نشأتي قوميّة، كما أن المقاومة ليست شيعيّة فقط. وهل كانت الحركة الوطنيّة تنظيماً طائفيّاً؟ وهل الشيوعيون شيعة؟ أو هل جمال عبد الناصر شيعي؟». هنا يعيد تحديد الصراع. هو بين مشروعين: شرق وغرب. أي مشروع أميركي وآخر مقاوم له. هو حكماً في الثاني. «والأميركيون أذكياء جداً إذ استطاعوا عبر اغتيال الحريري تحويل أغلب السنّة إلى جانبهم، رغم أن هؤلاء كانوا قلب المقاومة عادةً». حتى اليوم، لا يزال ينقل ركّاباً إلى الطريق الجديدة وقصقص وغيرهما من المناطق ذات الغالبية السنّية «ولا أغيّر لهجتي، مع أن الأمر قد يكون خطيراً». هو يُناقش ركّابه، خدمة للمشروع الذي ينتمي إليه: «أوضّح لهم مبرّرات المقاومة وأسباب بقائها». يخاف أحياناً لسانه. قد يجرّه إلى ما لا تُحمد عقباه. لكنه يثق حتى اليوم بحدسه الذي يُخبره أن هذا الراكب قابل للنقاش وذاك لا. لديه تشبيه خاص للمقاومة: «هي كإنجاب طفل، تحتاج إلى علاقة بشر متجانسين وإلى طبيب وأدوية وطعام ووسائل... تحتاج إلى بشر وإلى سلاح وإلى مال».
لا يريد محمّد الحاج حسن الدخول في جدل حول الوضع المعيشي، «مع أنه صعب وضاغط». الأولويّة بالنسبة إليه هي السياسة، «فإمّا أن ينجح مشروعنا أو يفشل». يسكت قليلاً ويقول: «ربما لأنني عازب، ولا مسؤوليّة طفل أو زوجة، ولا سعر حليب أو قسط أو طبابة، لا أكترث كثيراً. لكن وضع الناس صعب». هذا هو السبب الذي منعه من الزواج، «فلو كان التعليم والطبابة متوافرين لكنت تزوّجت».
يحب مهنته ولن يتركها. كما أنه يرفض السفر، لأن «من يريد أن يسرق وينصب على الناس يفعلها سواء هنا أو في الخارج». لن يسافر حتى إلى غزّة أو القدس «رغم أن فلسطين هي قضيتي الأولى، هي الأساس لأن فيها حصلت أكبر عمليّة سرقة وظلم لشعب بأسره».