نضال حمدتأتي ذكرى نكبة فلسطين وشعبها، ونحن لا نزال نصارع من أجل العودة وتضميد الجراح واستعادة الأرض التي سرقت منا بالقوة. يعبر شهر أيار بأيامه التي تحمل بصمات المذابح، ولقطات المجازر، ومحطات الإبادة، وذكريات الجحيم الذي عصف بشعب فلسطين قبل 60 عاماً. ففي بلادنا فلسطين سُرقت الأرض وسُلب الوطن، وهُجِّر البشر واقتُلع الشجر، وهُدمت البيوت، ودُمّرت المدن والقرى والبلدات، لا بل أزيلت عن الخريطة، وتمّ تغيير وتبديل وتزييف أسمائها.
قبل ستين عاماً كانت فلسطين عربية، وبعد كل تلك السنين ورغم ضياعها واحتلالها ومحاولات تهويدها ما زالت وستظل فلسطين كما كانت عربية. هذا ما دلّلت عليه الذكريات والانطباعات التي بقيت لي من رحلتي اليتيمة إلى وطني فلسطين قبل نحو عشر سنوات. فالذي رأيته في الجليل الفلسطيني الباقي فلسطينياً جعلني أكثر ثقة بشعبنا وإيماناً بأن الأرض التي لا تحرم أهلها المطر سوف تظل عاصمة السماء وملاذ الآباء والأجداد والأحفاد والأبناء.
ما شاهدته في الناصرة وحيفا ويافا وعكا ودير حنّا وسخنين وعرابة ودير الأسد، والبعنة والرينة وكفر كنّا ووادي الحمام ووادي عارة وأم الفحم ومجد الكروم وشفا عمرو وعكبرة وترشيحا وكابول وعيلبون وبقية المناطق هناك، خير دليل على أن شعبنا عصيّ على الإبادة.
رأيت فلسطين العربية في عيون وقلوب أهلنا الذين ظلّوا متشبّثين بأرضهم، فصمدوا في بيوتهم وحقولهم ومزارعهم وعلى بيادر قمحهم، وتحت ظلال أشجارهم، وفي معاصر زيتونهم ومع برتقالهم.
هناك في دير حنا رأيت مزايا وعادات وتقاليد شعب فلسطين. أهل الجليل، تعرّفت عليهم وعرفتهم عن قرب رغم أنني من قرية الصفصاف قرب صفد في الجليل الأعلى، التي حوّلها المحتلّون إلى مستعمرة دلّعوها فسمّوها «سفسوفة». ترى ماذا كان سيقول وبأيّ العبارات كان سيعلّق جدي لو علم أن صفصافته من (صفصاف) غدت سفسوفتهم من (سفسوفة)؟
حكايات الجدة والجد والوالد والوالدة والأعمام والعمّات والأخوال والخالات، والكبار في السنّ من الأقارب والجيران والمعارف وأهل بلدتنا الصفصاف، أهل بلدات الجليل والساحل الذين هُجّروا وشُرّدوا من فلسطين إلى مخيّمنا عين الحلوة، ومخيمات أخرى في لبنان وسوريا والأردن.
رأيت على الطبيعة كل تلك الأشياء التي كنت أسمع عنها في حكاياتهم. ولم أكن أفهم معظمها لأنني ولدت في مخيم بالشتات، ولم أعرف عن فلسطين سوى ما جاء في حكاياتهم وفي الكتب القليلة التي كانت تتحدث عن تاريخ وجغرافيا وطننا الجريح. عرفت أن الأعراس التي حدّثنا عنها الكبار في السن لم تكن نوعاً من المبالغات والمزايدات أو من حكايات السندباد وألف ليلة وليلة. كانت فعلاً حقيقياً وأعراساً جديّة، تقام فيها الولائم، ويلتئم الشمل، وتمتد الموائد، وتقدّم المشروبات والأطعمة والحلويات، وتُنحر الذبائح، والفرق التراثية ترقص وتغنّي وتنشد، وتنصب الدبكة الشعبية الجليلية في الشوارع وعلى الدروب، ثم تقدّم التهاني والهدايا والعطايا. هناك يجد المرء صعوبة في معرفة كل شخص من أي قرية أو بلدة جليلية جاء. ففي أعراس الجليل تتوحّد قرى وبلدات الجليل. فتجد المغنّي من دير الأسد، والذي يقود الدبكة من سخنين، والذي ينشد من عرابة، والعازف من دير حنا...
هناك في قلعة العمر في دير حنّا رأيت فلسطين حية وقوية وأبدية، وآمنت أكثر بأن الذين كانوا سبباً في معاناتنا وتشرد أهلنا وفقداننا وطننا ليسوا أكثر من لصوص سرقوا الأرض وزوّروا الأسماء وارتكبوا الجرائم وروّعوا البشر. لكنهم واهون، فارغون، أسس بنيانهم هشّة وبلا أركان، لذا نحن عائدون وباقون، وهم حتماً إلى زوال.