جان عزيزثمّة قطوعان دمويان مكتومان وغير معلنين، كانا يهجسان في أذهان اللبنانيين طيلة الأيام الثلاثين الماضية. وقد يكون أحدهما على الأقل قد جرى إسقاطه، وقد تكون تطورات الساعات المقبلة كافية وكفيلة إسقاط الآخر. والقطوعان الدمويان مرتبطان مباشرة ببداية العهد الرئاسي الجديد، وبانتظار تأليف حكومته الأولى.
القطوع الأول المهجوس به، منبثق من ذكرى الرئيس الراحل رينيه معوض. نحو 19 عاماً مرت على تلك الحقبة. يومذاك أيضاً كان فراغ رئاسي. وكانت حروب وتفجّرات. وكان اتفاق دولي بقابلة عربية ومكان ما في الطائف.
انتُخب رينيه معوض رئيساً في 5 تشرين الثاني 1989، وبدأ مخاض عسير لتأليف حكومته الأولى. ويومذاك أيضاً قيل إن جهات خارجية وربما داخلية لم تكن راضية عن صيغة التسوية. وقيل إن هؤلاء مشوا بالحل، على أمل تغيير موازينه، وبالتالي تبديل مواثيقه.
تعثّرت ولادة الحكومة الأولى في عهد الطائف. قيل إن السبب كان يومئذ أيضاً «حقوق المسيحيين». بعد نحو أسبوعين على انتخاب معوّض، زاره عبد الحليم خدام في مقر إقامته في زغرتا. بعد مغادرة المسؤول السوري، التقى الرئيس المنتخب رئيس حزب الكتائب الراحل جورج سعادة. كان معوّض مضطرباً، مستاءً وممتعضاً. ينقل سمير جعجع عن سعادة، أن الأخير سأل الرئيس عن أسباب حالته. فأجابه: «تصوّر أن خدام جاء يطلب مني توزير ميشال المر. يريدون في بداية عهدي أن يُقال إنني أعطيت السوريين وزيراً من حصة المسيحيين!».
بعد أيام اغتيل معوض، جاء عهد جديد وحكومة أولى سهلة الولادة، تماماً كما كل الحكومات التي تلتها. قيل الكثير، أو القليل، عن تلك الحقبة، وعن دور خدام فيها، ولمصلحة من كان يقوم بدوره. وقيل إن وزيراً سابقاً شاهداً على الحقبة، يعدّ كتاباً وثيقة، قد تلقي أضواءً جديدة على ما حصل يومها، وما كانت خلفيّاته، وما انتهت إليه نتائجه. من رينيه معوض في 22 تشرين الثاني 1989، إلى رفيق الحريري في 14 شباط 2005. حكاية اغتيالين وخط خفيّ بينهما...
مهما كانت حقائق تلك المرحلة، يظل الأكيد أن حيثياتها لا تزال حيّة في أذهان اللبنانيين. ويظل الثابت أن عِبرها لا تزال ماثلة في استشعار الخطر، والخطر الدموي تحديداً، حين يكون اتفاق خارجي منقوص الإجماع ضمناً، وحين ينتهي إلى حل داخلي منتقص الإنجاز علناً. هذا كان الهاجس المكتوم الأول، الذي رافق قسماً كبيراً من اللبنانيين منذ 25 أيار الماضي، والذي يحسّون بسقوطه في هذه اللحظات.
غير أن ثمّة هاجساً ثانياً ماثلاً، يلاحقهم. والهاجس الثاني أكثر قرباً في الزمن، وأقل وقعاً ونتيجة، كقطوع دموي. والمقصود به حقبة تأليف حكومة السنيورة الأولى، قبل ثلاثة أعوام ونيّف. كان ذلك مطلع تموز 2005. الانتخابات النيابية انتهت، ولم تنتهِ تداعياتها. أكثرية نيابية مسيحية في جهة، فيما الأكثرية الشعبية المسيحية، والساحقة، في جهة أخرى. وبين المعادلتين، مطلوب تأليف حكومة وفاقية، لمواكبة أول عهد السيادة المستعادة، واستكمال مقتضياتها وإعادة تكوين سلطتها. لم يلبث الصراع أن انفجر بين حاصدي الأكثرية النيابية ممثلين بقريطم، وبين حاصدي الأكثرية الشعبية مسيحياً، عبر الرابية. توترت المناخات. قيل أكبر الكلام وأكثره تعبيراً عن بواطن الصدور. وكان خط تماس الاشتباك واحداً: هل تصحّح الحكومة «سرقة» النيابة مسيحياً، أم تكرّسها تمهيداً لـ«سرقة» الرئاسة؟
وسط اندلاع المعارك الكلامية، وصلت المسؤولة الأميركية إليزابيت ديبل فجأةً إلى بيروت، في 7 تموز 2005. بدأت نهارها الطويل من الرابية، وأنهته في قريطم. في ختام ذلك اليوم، قيل إن «محرّمات» حكومية سقطت لدى الموالاة، وإن البحث صار مفتوحاً على خيارات جديدة وصيغ عدة ممكنة ومتاحة. تبدّل المناخ إيجاباً، ولبث الجميع ينتظر التصديق. بعد 48 ساعة تأكّد الانطباع: للمرة الأولى منذ عودته قبل شهرين، ميشال عون في قريطم، بعد زيارتين لسعد الدين الحريري إلى الرابية. لقاء مسائي مطوّل، انتهى إلى التصريح الباسم الشهير بين الجنرال والشيخ: اتفقنا على نحو 90 في المئة من الأمور.
في اليوم التالي، 10 تموز 2005، قيل إن الحكومة قيد وضع اللمسات النهائية. وقيل إن الولادة وشيكة جداً، وإن النتيجة مفرحة لكل من هو «أم الصبي».
بعد 48 ساعة كاملة، انفجرت سيارة مفخّخة على طريق الرابية. نجا إلياس المر بأعجوبة من محاولة اغتيال غامضة. ذاك المساء خرج المر الابن مدافعاً عن إميل لحود، ومتهماً جهات فلسطينية. فيما اكتفى المر الأب بشكر الرب على نجاة وحيده، وترك كل التفاصيل الباقية خلفه.
بين تهنئة المر بنجاته، ولململة جراح الضحايا، لم ينتبه اللبنانيون إلى أن حكومة الوحدة المنشودة، سقطت في انفجار الرابية. تعنّتت الموالاة، رفض عون، ودخلت البلاد مسارها الأكتع، حتى تكرسحت.
ولادة الحكومة الأولى، حكومة الوحدة، في العهد الرئاسي الجديد، باتت وشيكة. اقطعوا الأنفاس، ليمرّ القطوعان الهاجسان.