أنسي الحاجكلّما رأيتُ صورة نسر، وغالباً على عَلَم، تَمَلّكني نفورٌ مرتعب. وأمس شاهدتُ في «ملحق النهار» صورة لطفل أسود عارٍ جلس أرضاً بكامل استسلامه، دافناً رأسه بين يديه خوفاً من نسر جَثَم خَلْفَه متأهّباً لالتهامه. على ما قيل إن ملتقط الصورة انتحر بعد التقاطها بثلاثة أشهر. لم يُعرف السبب. أرجو أن يكون شعوره بالذنب لتفضيله التقاط الصورة على نجدة الطفل. سيكون انتحاره أقلّ ما يمكن. لا تضاهي وحشيّة النسر غير وحشيّة الصحافي. واحدٌ متربّص بملاكٍ صغير وآخر بجيفة السبق الصحافي. حتّى انتحاره لا يغسل جريمته. وهي مزدوجة.
الجوارح الكواسر. مجرّد ألقابها تُشيع الفزع. وتلك العقبان الصلعاء، كَهَنة الجثث، حفّارة قبور السماء. لا أصدّق أن الطبيعة تحتاج إلى جميع كائناتها، وأن توازن البيئة يستلزم الحفاظ على فظائع حيّة كالضبع، مثلاً. حتّى نغضي عن تسمية الحشرات المقزّزة. وقوارض المجاري الأكثر عدداً من الشعوب. كيف يستقيم توازن البيئة بانقضاض قطيع من الفهود على غزالة صغيرة؟ أو إغارة نسر من أعاليه على سمكة عزلاء تُلاعب موج أديم البحر فيخطفها ويبتلعها كأنه يؤدّي رقصة فنيّة أو يقوم برياضة بدنيّة؟ فضلاً، أولاً وآخراً، عنّا نحن وحوش البشر أكَلَة اللحوم. وأنا منهم. وسيأتي يوم تحاسبنا فيه هذه الكائنات الحنونة الخجولة الساذجة الكريمة المتمدّنة، على استعبادنا واضطهادنا وجرائمنا، ولكنّها للأسف ستكون معنا، حتى على القوس، أرأف منّا، ولعلّها أن تعفو عنّا لثقتها بأننا، حين تستردّ هي حقوقها وتصون حياتها منّا، سنعود إلى أصلنا ونأكل بعضنا البعض.

تنحاز عواطفي إلى طيور الخفّة والغناء. طيور البشرى. أمس عادت السنونو إلى الشمال وطلائع مالك الحزين إلى برك الملح في عكّار. ذكّرتني بهدهد رأيته مرّة واحدة. كان ذلك عهد المراهقة وأنا أرافق قريباً عند الصباح في رحلة صيد. وما أبشع هذه الكلمة. كنّا في بلدة رياق، أو ربّما أبلح. لم أعد أذكر. أو بينهما. أرضٌ مائية تغطّيها الخضرة وشجيرات اللوبياء. فجأة رفعت رأسي فشاهدته. كان على بعد ثلاثة أمتار مني منتصباً على أعلى شجيرة اللوبياء. كان الصيّاد ورائي. التفتُّ نحوه مدهوشاً فأسكتني، فرجوته ألّا يطلق النار، فطمأنني. رآنا الهدهد وطار. لم تزل في عينيّ صورة لبدته العجيبة ومنقاره الذي يذكّر بأنف سيرانو دو برجوراك. منقاره أطول من رأسه. وريشه من أجمل ما هناك من ألوان. وفي عينيه قَدْح وحَدْس. إنه هدهد سليمان. ولو لم يكن له غير اسمه بالعربيّة (ولعلّه أجمل أسمائه في اللغات جميعاً). لكفاه ذلك علوّ مقام.

لم أسمع بالهدهد من الكتب، بل من أبي. فقد كانت اللفظة من قاموسه اليوميّ. ولا يريد بها العصفور، بل ما تشاء مخيّلتك من وحي طريقته في اللفظ والاستعمال وإحاطة اللفظ واستعماله بتلك الروح الفَكِهَة ذات الغمزة الماجنة على خَفَر. «كيف الهدهد؟» كان يلاقي ضيفه أو مضيفه، ذَكَراً، وأحياناً أُنثى، إن دَرَيا مغزاها كان به، وإلّا فالحيرة مستحبّة. تماهى أبي والهدهد إلى حدّ أنّه أصدر ذات يوم جريدة سياسيّة ساخرة سمّاها «الهدهد» تعاون فيها مع سعيد تقي الدين وفؤاد حدّاد وجوزف نصر، ولم نستطع نحن أولاده استرداد امتيازها لأسباب مجهولة.

يروي «لسان العرب» أن أبا حنيفة اعتبر أن الهدهد (والهُداهد) هو الكثير الهدير من الحمام. وهدهدت المرأة ابنها أي حرّكته لينام. وفي الحديث عن النبي محمد أنه قال: «جاء شيطان فحمل بلالاً فجعل يُهدهده كما يُهَدْهَدُ الصبيّ»، وذلك حين نام عن إيقاظه القومَ للصلاة. وعند الفيروز أبادي أن الهدهد هو كلّ ما يقرقر من الطير. ونسب أقدمون إلى الهدهد القدرة على معرفة مخابئ الكنوز، وطبعاً، مع سليمان، القدرة على رؤية الماء تحت الأرض؛ لذلك نسمعه يقول: «هدْ، هدْ، هدْ»، بمعنى هنا، هنا، هنا، وهو من فِعل هدى يَهدي عكس أضلّ، طبعاً بالعربيّة. ولعلّه يهدي بهذه اللغة أيضاً في جميع اللغات، ويفهمون عليه فيها دون ترجمة، وهذه نعمةٌ يتمتع بها بعض الأصوات، وبعض السكوتات كذلك.
تسمّيه شعوب اوروبيّة ديك الصيف. وهو فعلاً، عدا قوله «هد، هد» للإرشاد أو الأرجح لجلاء حنجرته من التلويث البشري، ذو عادات انعزاليّة سَكوتة، ويؤثر العيش في الأراضي الواطئة والرطبة. يمشي مشية متّزنة إيقاعية لطيفة، منتصب الريش، أمّا طيرانه فأقرب إلى القفز والنطنطة والاستطراد. يبني الهدهد عشّه في أعباب الصخر وشقوق الحيطان وجذوع الشجر. وتقول «موسوعة الرموز» الألمانيّة ـــــ الفرنسيّة إن الهدهد من الطيور المهاجرة التي تستوطن بلدان المتوسّط، وكان بعض الأقدمين يعتبرونه نجساً لأنه ينقر حشرات الزبل، ويصنّفونه عدوّاً لدوداً للنحل. أمّا أوفيد فيروي في كتابه «التحوّلات» أن الهدهد كان في الأصل ملكاً من الملوك جُعل طائراً بسبب جرائمه (وحُوّلت زوجته، التي كان يطاردها شاهراً سيفه، إلى عندليب). وهناك حكاية أوروبيّة عتيقة تنظر بتقدير إلى الهدهد، وتزعم أن صغار هذا الطير ترعى عجائزه فتنتزع ريشها الذابل وتلحس عيونها المتعبة إلى أن تستعيد صباها. وفي هذا تشابُه بين الهدهد وحلم الخيميائيين الخاص بنبع الصبا والانبعاث الجسماني والروحاني. ومن هذه الزاوية يرمز الهدهد في بعض الكتابات الفلسفيّة والصوفيّة للإسلام إلى الكائن المرشد للباحث عن موطن روحه الحقيقي. يقول السهروردي في القرن الثاني عشر: «وفي ليلةٍ قَمَرُها بدر، رأينا الهدهد يُطلّ من النافذة ويلقي علينا التحيّة. كان يحمل في منقاره رسالة مخطوطة، موجَّهة من الجهة اليمنى للسهل المبارك، من عمق عوسجة. قال لنا الهدهد: عرفت كيف السبيل لإنقاذكم، وإنّي حاملٌ إليكم من مملكة سبأ الخبر اليقين». وفي القرن الثالث عشر الميلادي، يسند فريد الدين العطّار في «منطق الطير»، إحدى روائعه، دوراً أعمق وأعظم إلى الهدهد، إذ يجعله بطل قصّته، قصّة رحلة يقوم بها ثلاثون طائراً بحثاً عن العصفور السحري، السيمورغ (بالفارسيّة)، ويقود القافلة كلّها طائر الهدهد. تكتشف الطيور في نهاية طوافها أن ضالتها إنما هي فيها لا خارجها، وأمّا عناء الحجّ فما كان إلاّ لصقل مرآة القلب كي تستطيع صورة المحبوب الانعكاس عليها، فنكتشف (مع طيور العطّار) في ذاتنا المحضة وحدةَ وجودِ كلّ ما هو موجود: «عندئذٍ يتلاشى الظلّ في الشمس. هذا كلُّ ما في الأمر». وخلال هذه الحكاية يضطلع الهدهد بدور الرسول والوسيط ما بين العالم المرئي والعالم اللّامرئي، مجسّداً الحقّ والحكمة.
ومعروف قبل ذلك ذكر الهدهد في القرآن (سورة النمل) ومقروناً بالملك سليمان.
هكذا يرتفع الرمز الهدهدي في التاريخ وينخفض تبعاً لتقاليد الشعوب التي تتلقّفه وثقافاتها. وما من شك أن التراث الصوفي الإسلامي سما به إلى أعلى المراتب عندما أسبغ عليه التأويل معنى سلطان الروح، أو الحقيقة الإلهيّة المطلقة، أو الاسم الخفيّ للإمام، والانبعاث الذي سيكافئ مَن أدرك نورَ العرفان.

كنّا في شيء وصرنا في آخر. يستحق الهدهد طويلَ الكلام. لا أعرف إن كان لا يزال منه أثرٌ في لبنان. لا تقوّصوه أيّها الصيّادون، لن يدعكم الملك سليمان تستمتعون بلحمه. دعوه في بحراننا تجاهه بين صوفيّة ورطوبة، الحقوا عينيه الرائيتين إلى روح روحكم، علّها تستفيق، أو تولد حيث لا وجود لها. أو علّه ينبت لروحكم، وهي معطاة أحياناً بلا استحقاق، ذكاء يُنوّرها، فيعفّ الفَهْم حيث غابت الرحمة.
لا أعرف إنْ كان والدي من الصنف الهدهدي المتصوّف. أظنّ أن مجايليه وعارفيه إذا سمعوا بهذه الفكرة سيقهقهون. وسيضحك والدي معهم لسذاجتي. وفي غيابي، حتّى لا يُحرجني. أو هكذا سيظنّ. وهو على حقّ. مثل جميع الآباء بعد فوات أواننا معهم أو أوانهم معنا. بل مثل بعض الآباء دون سواهم. الآباء العوالم. الآباء الخفيفو الوطء الرشيقو الجسم والكلمة. الشموس الظليلة. الينابيع الغفلة من التوقيع. هداهد المداعبة وخَلْف المداعبة هداهد الماء تحت الأرض. هداهد تركوا لنا كنوز كونهم آباءنا. هم بالتحديد. الذين نكتشفهم في آخر مطاف رحلتنا مع طيور العطّار. نكتشفهم عندما يتلاشى الظلّ في الشمس. نبدأ نكتشفهم مع بدء تلاشينا. «هذا كلّ ما في الأمر».