نقولا ناصيفاليوم، يكون قد مرّ شهر على تكليف الرئيس فؤاد السنيورة تأليف حكومة الوحدة الوطنية في 28 أيار الفائت. وباستمرار الأزمة الحكومية، بدا لافتاً في مراوحتها مظهران رافقاها: أولهما حصر السجال الداخلي من الأزمة الحكومية بتبادل الموالاة والمعارضة الاتهامات بعرقلة التوصّل إلى تأليف الحكومة الجديدة، دون توجيه أي اتهام مماثل إلى دور سوري في هذه العرقلة. وثانيهما أن المواقف العربية والدولية الكثيرة الالتصاق بالوضع اللبناني نأت بنفسها عن تحميل دمشق مسؤولية العرقلة الراهنة، على وفرة الاتهامات، المباشرة وغير المباشرة، التي كانت قد ساقتها ضدّها في مرحلة الاستحقاق الرئاسي.
ويكتسب هذان المظهران أهميتهما على أبواب انعقاد قمة الاتحاد من أجل المتوسط في 13 تموز المقبل في باريس. فالرئيس السوري سيقصد العاصمة الفرنسية للمرة الأولى منذ زيارته الأخيرة لها في 18 كانون الأول 2002 إبان ولاية الرئيس جاك شيراك. وكانت تلك ثانية زياراته بعد أولى ـــــ وكانت زيارة دولة ـــــ في 25 حزيران 2001. وستكون القمة مناسبة لحصول أول حوار مباشر بين الأسد وخلف شيراك، الرئيس نيكولا ساركوزي، الذي لم يشأ أن يرث من سلفه كل دواعي الخلاف مع سوريا ونبرته الحادة، ولا أن يحمّل هذا الخلاف الدوافع الشخصية التي كانت قد تولّدت بين الأسد وشيراك بعد حدثين متلازمين، هما: صدور القرار 1559 واغتيال الرئيس رفيق الحريري. كان آخر تخاطب هاتفي بين ساركوزي والأسد في 27 أيار عبر الهاتف، بعد 48 ساعة على انتخاب الرئيس ميشال سليمان، وشكر الرئيس الفرنسي الرئيس السوري على تعاونه ودوره الإيجابي في إجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية.
تعكس هذه الملاحظات اتجاهاً جدّياً إلى فتح صفحة جديدة من العلاقات الفرنسية ـــــ السورية انطلاقاً من قمة باريس، رغم تأكيد المسؤولين الفرنسيين أن الأسد لا يحلّ عليهم ضيفاً مميّزاً. كذلك تحرص الدبلوماسية الفرنسية في بيروت على التأكيد أن قمة الاتحاد من أجل المتوسط، المشرعة الأبواب على مناقشة ملفات متشعبة، أحدها قد يكون أقلها تأثيراً وهو الملف السياسي، لن تخلص إلى إصدار بيان ختامي يتضمّن مواقف سياسية حيال بلد من الدول المشاركة، كلبنان، أو تنخرط في اتخاذ مواقف سياسية تدخل في سياق علاقات ثنائية. ذلك أن حجم الملفات الشائكة المرشّحة للسجال بين الأوروبيين أولاً، ثم بينهم وبين العرب المشاركين، وبين هؤلاء وإسرائيل، تجعل من الصعوبة بمكان التوقف عند وجهات نظر سياسية تقليدية. وسيتعيّن على باريس إنجاح قمتها بإبراز مغزى شراكة هذه الدول، وتحوّلها كتلة قادرة على الحوار والتعاون والتقارب وتبادل الانفتاح والثقافة.
بيد أن الحدث السوري، من ضمن الحدث الفرنسي في 13 تموز، تلقّى باكراً أكثر من رسالة إيجابية ضمنية وجّهتها باريس إلى دمشق في الملف اللبناني، وكان آخرها موقفها من الأزمة الحكومية اللبنانية، والذي تلخّصه الدبلوماسية الفرنسية في بيروت كالآتي:
1 ـــــ ليس لدى باريس أدلة حسّية على اضطلاع سوريا بدور سلبي في الأزمة الحكومية اللبنانية. ويصحّ ذلك أيضاً على سواها من الدول المعنية بالوضع اللبناني كالولايات المتحدة والسعودية ومصر وقطر. لكن باريس تتساءل، في المقابل، هل يصبح من الواجب ـــــ إذا كانت العرقلة لبنانية ـــــ طلب تدخّل دمشق كيلا تستمر هذه العرقلة، وعندئذ تكون المشكلة أكثر تعقيداً؟ ورغم اعتقاد الدبلوماسية الفرنسية بأن دمشق تلعب بنجاح على الوترين في آن واحد، أن تعرقل أو أن تختبئ وراء معرقل كي تتحوّل عاملاً إيجابياً في الحلّ وتقطف ثمار ذلك دولياً، فإنه لا يسع باريس إلا أن تعترف بالدور السوري الإيجابي في إقرار اتفاق الدوحة.
2 ـــــ حاذرت فرنسا منذ البداية عدم توجيه أي اتهام بالعرقلة إلى طرف لبناني، الغالبية النيابية أو المعارضة، وبقيت بعيدة عن الخوض في السجال الداخلي. لكنها لاحظت أن الخلاف على الحقائب وتوزيعها على الأفرقاء والطوائف على النحو المعلن بين الطرفين، كان خير مؤشر إلى أن الأزمة محض لبنانية بسبب دقة المشكلة وحساسيتها الظاهرة، مع إدراكها في الوقت نفسه أن لكل من طرفي النزاع مصلحة مباشرة في الإسراع بتأليف حكومة جديدة وتجاوز عراقيلها. وتدرج مصلحة الغالبية في أن تأليف الحكومة يذهب بها إلى المصدر الفعلي لهاجسها وهو إجراء حوار جدّي وبنّاء حول مصير سلاح حزب الله، وإخراجه من الاشتباك السياسي المحلي، وتأمين الاستقرار الداخلي، ناهيك بحاجة الغالبية النيابية إلى استخدام الأكثرية التي تمثلها في البرلمان. وتكمن مصلحة المعارضة في أن صوتها بُحّ أكثر من سنة ونصف سنة كي يصار إلى تأليف حكومة وحدة وطنية والحصول على الثلث الزائد واحداً، وهو ما تكاد تحصل عليه.
وتبرّر الدبلوماسية الفرنسية لبنانية هذا السجال في أنها المرة الأولى التي يشترك فيها الأفرقاء جميعاً بتأليف حكومة لبنانية دون تدخّل سوري. ورغم أنها ليست الحكومة الأولى المستقلة إثر مغادرة سوريا لبنان بعد حكومة السنيورة عام 2005، فإن الأهمية التي تبرزها حكومة 2008 تكمن في اعتراف الفريقين المتنازعين بمصالح كل منهما، الأمر الذي لم تحققه حكومة 2005 تحت وطأة اغتيال الحريري وانحناء حزب الله للعاصفة واضطراره للتحالف الانتخابي مع الفريق الآخر ومشاركته دخول تلك الحكومة.
3 ـــــ تنظر الدبلوماسية الفرنسية في بيروت بتحفّظ إلى ما يقال عن تأثير سوري سلبي على الأزمة الحكومية، وتستشهد بما أبلغه الموفدان الشخصيان لساركوزي إلى الأسد في 15 حزيران، كلود غيان وجان دافيد ليفيت، وهو أن فرنسا تتوقع من سوريا مساعدة اللبنانيين في تأليف الحكومة الجديدة، والاضطلاع بدور إيجابي حياله. قالا أيضاً إن حكومتهما ترى تطبيق الاتفاق كاملاً لئلّا يبقى حبراً على ورق، لكنهما لا يشترطان الانفتاح عليها بتنفيذه، آملين في مساعدتها. كذلك قال غيان للأسد إن بلاده تأمل أن تبدأ فعلاً مرحلة الاستقرار في لبنان وتتوقف جرائم الاغتيال السياسي، من غير أن يقترن كلامه هذا بإشارة أو إيحاء فرنسي إلى دمشق، معبّراً عن تعويل باريس على رؤية لبنان وقد استعاد استقراره.