عايش نصف قرن من التحوّلات الاجتماعية والعمرانيةخزّان من ذكريات شخصية تتداخل مع تاريخ بلد وترصد نصف قرن من التحولات الاجتماعية في أحد أحيائه. 69 عاماً قضاها غابي معلولي في الشياح من دون أن تفلح حساسيات الحرب الأهلية في انتزاعه من منطقته، ولا المساس بعلاقته الطيبة مع محيطه
رنا حايك
ولد غابي عام 1939 في منطقة الشياح، تربّى ضمن أسرة من أم وأب وثلاثة أولاد، وقصد مدرسة «الفرير» حتى أتمّ الثانية عشرة من عمره. اضطر لترك المدرسة في تلك السّن الصغيرة والتفرغ لإعالة أسرته بعد وفاة والده. استدان مبلغ 75 ليرة لبنانية ليفتتح «على كعب الدرج» دكاناً متواضعاً أدارته والدته، بينما عمل هو خياطاً في باب إدريس. لا يزال يذكر القطار الذي كان يستقلّه من فرن الشباك ليصل إلى عمله كل يوم. لم يكن يستطع تحمّل تكلفة تذكرة البريمو (10 قروش)، فكان يقضي المشوار واقفاً بـ«خمسة قروش». يدرك حجم الكنز الذي يثري ذاكرته حين يتحدث عن وسط البلد القديم: «كان باب إدريس شريان بيروت. سوق الطويلة وسوق النورية والمعرض. كانت صالات السينما بالعشرات، روكسي وأوبرا وكابيتول وكريستال ومسرح فاروق. شاهدنا مرة حفلة زجل بين زغلول الدامور وموسى زغيب في السينما. وحين كانت تمطر، كان العتالون يفرحون، إذ يكثر الطلب على خدماتهم بعد أن تطوف الشوارع، ويتبارون في نقل بضائع البسطات من رصيف إلى آخرلم تستهوه مهنة الخياطة، فسارع إلى تغييرها، ووجد له عملاً في محل سمانة في وادي أبو جميل. كان ذلك في عام 1956، وقد بدأ اليهود بمغادرة لبنان واللجوء إلى إسرائيل. لم يختلط غابي بهم كثيراً وسرعان ما غادرهم عائداً إلى الشياح.
كان الحي عبارة عن مساحات شاسعة من البساتين. المنطقة كلها كانت كذلك، بما فيها المريجة التي كان يقصدها غابي كل صباح لشراء الخضار وبيعه في الشياح.
ارتبط شارع مارون مسك في الشياح بسباق الخيل بحكم قربه الجغرافي من الميدان الكائن في منطقة الطيونة. وكان البدو يأتون بالخيول العربية لبيعها في مزادات تُعقد أمام الإسطبل الكبير في مارون مسك، فاهتدى غابي إلى الرهانات وشارك في تنظيم «البارولي»، تلك اللعبة الممنوعة التي كانت تؤمّن الرهانات لجميع أبناء الحي من الشباب الذين يقصدون غابي خصيصاً لهذا الغرض. كلّفته هذه اللعبة الملاحقة القانونية مرّتين، لكنه كان يعرف كيف «ينفد بجلده» من التحرّي في كل مرةذكاء غابي الاجتماعي جعله يتفادى أفخاخ الحرب الأهلية: منظمة فتح والحركة الوطنية، الشيوعيين وأمل وأخيراً حزب الله. كل الأحزاب التي مرّت على الشياح احتوت غابي المسيحي وهو احتواها. غابي، بنزعته الأبيقورية، مارس التعايش والعيش من دون شعارات: «أصحابي جميعهم من أبناء الشيعة، كان حسين ومحمد وعلي ندمائي خلال سكرات الحرب الطويلة وشركائي في سهرات لعب الورق. ولم يكن هناك مشاعر طائفية مثل اليوم. حتى خلال ثورة 1958حين تمزّق لبنان بين نزعتي العروبة والتغريب وبين مشروعين عالميين، لم يكن هناك طائفية. لم تبدأ هذه الآفة بالانتشار إلا بعد اغتيال معروف سعد».
أحبّ غابي الإمام موسى الصدر وحضر عدداً من اللقاءات التي كان يعقدها، كما حضر مجالس عاشوراء التي كانت تنظمها عائلة الخنساء في الغبيري. وقبل أن يعي شيئاً، خلال سنوات طفولته الأولى، كانت عائلة فلسطينية ممن هربوا بعد نكبة 48 تشاركه بيت الأسرة حيث استقبلها والده.
عام 1960، انتقل غابي إلى دكان أكبر في شارع مارون مسك، ومرّت السنوات هانئة. تزوج عام 1967 تفادياً لانتظامه في صفوف الخدمة الإجبارية في الجيش وسكن في الشياح. يقسّم غابي الحرب إلى جولات. قال له أحد أصدقائه من أبناء الحي عام 1975، خلال الجولة الأولى: «غبلك 5 أو 6 ساعات وارجع بتكون هديت» لكنه غاب ستّ سنوات. نزح مع أسرته إلى الدكوانة. كان يعمل نحو 21 ساعة في اليوم. يشتري البنزين من بيروت الغربية ويبيعه في الناحية الأخرى من المدينةبقي أخو غابي، جوزيف الذي كان مع والدته، في الشياح، فأعادا فتح الدكان عام 1983 وأداراه بينما كان غابي يطلّ عليهما من وقت لآخر حتى عام 1993 حين عاد نهائياً للاستقرار.
كان الشارع لا يزال على حاله، ولم يبلغ الاكتظاظ الإسمنتي ذروته بعد. وكان المسيحيون، وهم يمثّلون نحو عشرين عائلة (صوايا، صعب، حاج، فرنسيس، صليبا، معلولي، القارح) من الملاّك، قد بدأوا بيع أملاكهم التي لجأ إليها المهجرون من الجنوب والبقاع خلال الحرب، لكن غابي لم يفكّر يوماً بالمغادرة، فهي منطقته التي تربى فيها. يمازحه أهالي الحي من الوافدين الجدد حين يؤكدون له أنه «صار منهن وفيهن» دون أن يدركوا أنه من السكان الأصليين. هذه النقطة لا يفهمها سوى أصدقاء غابي من كبار السن الذين يشاركونه الذكريات ذاتها عن شارع خاو إلا من خمس أو ست أسر والكثير من البساتين والفضاءات الخالية.
يكره غابي الحديث في السياسة، ويستفزّه استفحال نزعات التفرقة الطائفية في نفوس اللبنانيين، كما يحتج على جملة الزعماء السياسيين المكرّرة عن الغبن الذي يتعرض له المسيحيون. يحب، إلى جانب سباق الخيل، لعبة الفوتبول، لكنه امتنع خلال السنوات الأخيرة عن متابعته، فقد سُيّس بدوره. يكرّر أنه تعب، وأن حلمه اليوم يقتصر على إقفال دكانه واستئجار منزل على البحر يقضي شيخوخته فيه بهدوء. «الموظف يخرج للتقاعد بعد أربعين عاماً تقريباً من الخدمة، أنا أعمل منذ أن بلغت الثانية عشرة من عمري، أي منذ 57 عاماً. ألم يحن الوقت لأرتاح؟ فقد اطمأننت إلى أسرتي وبناتي وأصبحت جدّاً. كنت أود أن أكمل دراستي لكنني لم أستطع. ظروفي منعتني من ذلك. فكان العمل الذي أستطيع مزاولته متعباً ولم يكن لدي خيارات كثيرة».
ورغم كل ذلك التعب الذي يتحدث عنه غابي، إلا أنه لا يزال نشيطاً وصاحي الذهن، تساعده ميراي، ابنته، في إدارة الدكان، لكنه يتابع تفاصيل التفاصيل: يناكف صاحب الدكان المقابل، ويتذكر بسرعة تاريخ استلامه آخر طلبية عصير. يتعامل مع المورّدين ومع مندوبي الشركات بفطنة ويقظة كاملين، ويمازحهم بحسّه الفكاهي العالي وسرعة بديهته، فلا يخرج من عنده مندوب أو زبون إلا وهو يضحك.


قصص وذكريات«بتحبوه؟»، «إيه، كتير».
لالي وصديقاتها لسن استثناءً، بل هن امتداد لأجيال متعاقبة تربّت على صرف «خرجيتها» من محل السمانة الذي يحوي الأطايب ويشيع فيه مالكه جواً من المرح.
الأطفال ليسوا أصدقاء غابي الوحيدين. فنساء الحيّ اللواتي يتبضّعن من عنده، يتابعن أخباره وأخبار الحيّ في الدكان. يصبح المكان جزءاً حميماً من الصبحية، ويصبح غابي «المنقذ» بعد أن بذل مجهوداً لتلبية طلبات ست البيت المنهمكة في الأعمال المنزلية: فهو يتلقى الطلبات على التلفون بينما يتكفّل «إبراهيم» بإيصالها إلى باب البيت أو لوضعها في سلة القش الممدودة من «البلكون». يقدّم غابي نصائحه للزبائن بحيادية تتنافى مع شخصية التاجر، فهو ينصحهم بالمنتجات الأحسن، وينبّههم إلى غلاء ثمنها أو انخفاضها نسبة إلى سلعة أخرى.