إبراهيم الأمينحسناً، ما هي إلا بضعة أيام ويقفل ملف الأسرى بين لبنان وإسرائيل. ليس معروفاً إن كان بين المؤرخين العرب الجدد من سوف يورد هذه الواقعة: «في التاسع والعشرين من تموز من عام 2008، أجبرت منظمة مقاتلة لبنانية اسمها حزب الله إسرائيل على «إغلاق» مقبرة كانت مفتوحة بصورة دائمة لدفن قتلى المنظمات المقاتلة لها وتضع لهم أرقاماً بدلاً من الأسماء». لكن الأكيد أن أهالي عشرات الشهداء من فصائل فلسطينية ولبنانية ومن جنسيات عربية، كانوا قد اكتفوا خلال العقود الثلاثة الماضية بصور لأحبائهم ويتذكرونهم في ذكرى استشهادهم. لا ضريح يزار ولا وردة تلقى وتتلى بعدها كلمات للرب. وهذه العائلات، سوف يأتي من يوقظ فيها آلاماً يحسب كثيرون أنها نامت بفعل الزمن.
هي بضعة أيام، وتخلى سجون إسرائيل من كل معتقل لبناني، وسوف يمر وقت قد يطول قبل أن يخرج أحدهم بنبأ عن وجود معتقل لبناني في سجن إسرائيلي، من دون أن يلغي ذلك احتمال وجود سجناء جنائيين أوقفوا لأسباب تتصل عادة بأعمال السرقة والتهريب والمافيا. وسوف يفتح هذا الإنجاز الضخم الباب أمام معركة هي أكيدة في عقل الفلسطينيين لتكرار الأمر نفسه. وعلى كثيرين ألا يستبعدوا اليوم الذي قد لا يتأخر كثيراً وتقفل فيه كل السجون الإسرائيلية بوجه معتقلين فلسطينيين وعرب.
وإذا كان في إسرائيل من هو مستعد لتحمّل المسؤولية عن الإخفاق الإضافي المتصل بإخفاقات حرب تموز 2006، فإن النقاش هناك يتصل بالبعد الردعي للاعتقال. وبهذا المعنى يمكن فهم الموقف المتشدد لقائدي جهازي الموساد والشاباك من الصفقة، لأن ما يشغل بال الرجلين، من موقعهما، ليس عدم تسهيل مهمة القادة السياسيين بالتخلص من عبء أخلاقي ومهني وسياسي، بل هما ينظران الى الأمر من زاوية الضرر المستقبلي، وفق منطق الجريمة المتمادية، التي تقود من حادث الى آخر ومن ضحية الى أخرى ومن خسارة الى أخرى.
في نهاية الفيلم الشهير «ميونيخ» للمخرج ستيفن سبيلبرغ، يقرر قائد وحدة التصفية الإسرائيلي الهجرة نهائياً الى اميركا، يلحق به مشغّله الإسرائيلي ويطلب منه العودة الى البلاد، فيرد الأول بأنه لا يعرف نتائج المهمة التي قام بها: نقتل منهم زعيماً أو قائداً فيأتي بدلاً منه العشرات، فيجيبه مشغله بهدوء: هل لك أن تجيبني لماذا نقلّم أظافرنا بما أنها ستنمو بعد وقت قصير؟
قد يكون هذا هو الجواب الذي لم ينتظر قائدا الموساد والشاباك سماعه من القيادة السياسية التي صوّتت. وهما لم يتوقفا عند حجة زميلهما رئيس الأركان غابي أشكينازي الذي قدم الأمر على شكل معادلة منطقية: دعونا نسترجع الجنديين حتى نقدر على النظر في عيون جنود سوف نرسلهم من جديد الى الحرب! ببساطة، فإن ما جرى أمس في إسرائيل، كان إغلاقاً لصفحة طويلة من أحد فصول الحرب مع لبنان، لكن التحفظ المهني لقادة الأجهزة يعكس الاقتناع لدى هؤلاء بأن الحرب مستمرة، وأن هناك جردة حساب إضافية مع العدو.
لنترك ميشال معوّض وكارلوس إدّه وعمار حوري في ورشتهم لإعداد ورقتهم الى الحوار حول انتفاء أسباب المقاومة، وسوف يكون لهم ما يريدون من طلات إعلامية وبهلوانية في الفترة المقبلة، لكن المهم في ما حصل أمس، هو أن لا يترك في أذهان البعض في لبنان ما يقود الى تفسيرات خاطئة أو الى قراءات وبالتالي الى قرارات خاطئة، لأن جردة الحساب المفتوح بين المقاومة وإسرائيل لم تنته بعد. وفي عقلها القيادي حسم ملف الأسرى منذ أن نجحت عملية الأسر قبل نحو عامين. ولكن المهمّات الإضافية التي كان يمكن أن تكون مادة بحث ونقاش مع الجمهور، سوف تطفو على السطح من جديد.
في متن القرار الإسرائيلي الذي صادقت عليه الحكومة، لا ترد إشارة الى خرائط الألغام والقنابل العنقودية، وهذا إن لم يتداركه الوسيط الألماني بالشق الإجرائي، فسيكون سبباً كافياً لأن تشنّ المقاومة ألف عملية وعملية وتقتل ما تشاء من جنود العدو، وربما من مدنييه، ما دامت آلة القتل الإسرائيلية مستمرة. ولكن لنفترض أن الأمر لن يكون على هذا النحو، فما هو جدول أعمال المقاومة في الفترة المقبلة.
بالتاكيد فإن عملية تعزيز الجهوزية الدفاعية وتطوير البنى القتالية والهجومية عند المقاومين لن تتوقف، حتى ولو ارتفع صراخ سامي الجميّل الى أعلى من قامته، ثم إن الخطط الاحتوائية لمنع تعرّض المقاومة لأي عمل عسكري من قبل العدو أو من قبل عملاء له في الداخل سوف توضع وتجرب من دون الحصول على إذن من أحد. لكنّ ثمة أموراً أكثر وضوحاً تحتاج الى علاج، كما أن هناك ملفات بحاجة الى إغلاق ولو جزئياً، ومنها:
أولاً: إن قرار المقاومة معاقبة المخططين والمقررين والمنفذين لعملية اغتيال القائد العسكري في المقاومة الشهيد عماد مغنية لم ينفّذ بكامله بعد. وربما نشهد أموراً كثيرة قد ترد في سياق العقاب. لكنّ ثمّة حدثاً كبيراً لا بد من أن يقع، من دون أن ينتظر أحد في لبنان أو إسرائيل صدور بيان من حارة حريك، فإنه سيكون موقّعاً باسم رفاق مغنية، وهو عقاب سيكون بحجم الفعل ـــــ الجريمة، وكل تأخير له أسبابه العملانية والتقنية، وحتى عندما يدخل الاعتبار السياسي، فذلك لا يمكن أن يعطّل القرار بالتنفيذ.
ثانياً: إن خروق إسرائيل المستمرة والمكثفة للسيادة اللبنانية براً وبحراً وجواً، لم تتوقف، ومهلة سنتين تبدو كافية لقوات الطوارئ الدولية، وهي لم تنجح في وقفها أو الحد منها، بل لطالما جاء المندوبون الدوليون يحملون تبرير إسرائيل بأنها تحتاج الى هذه الطلعات لتلبية متطلباتها الأمنية في جنوب لبنان. ولذلك، فإن واجب المقاومة أن تباشر من جانبها آليات عملية وتنفيذية لإشعار إسرائيل بوجود كلفة عالية للاستمرار بهذه الخروق، وجعل المجتمع الدولي يفكر بالأمر بطريقة مختلفة.
إنها مسألة وقت فقط.