إبراهيم الأمين«لو تطلّب الأمر موازنة كاملة لصرفناها من أجل حماية نفوذنا ومصالحنا في لبنان». العبارة القاسية ينسبها إعلامي عربي بارز إلى أحد كبار المسؤولين في العائلة الحاكمة في السعودية، وذلك في معرض شرحه للوضع في لبنان والخلاف القائم بين الرياض ودمشق حول إدارة الملف اللبناني. وعند تقديم المزيد من الشروح، يقول المسؤول السعودي إن بلاده زادت من حجم المساعدات للبنان، لكنه يضيف دون حرج، أن الرياض تميّز هذه المرة بين حليف وصديق ومن هو في موقع الخصومة: «إيران تصرف مثلنا أو أقل في لبنان وفلسطين، فهل نتركها تسيطر على الوضع هناك؟».
الجديد في الأمر ليس الإنفاق السعودي على كل شيء في لبنان: سياسة وشركات وسياسيين وإعلاميين ووسائل إعلام، لكن الجديد هو في الأهداف المركّزة لهذا الإنفاق. وإذا كان متعذراً ترتيب آلية لاختراقات كبيرة في الطائفة الشيعية، وأن الأمور أهون عند السنّة والدروز، إلا أن البحث يدور الآن حول الواقع المسيحي، ولا سيّما أن قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع نجح قبل غيره في الحصول على قنوات مباشرة مع السعوديين، لا من خلال تيار «المستقبل» حصراً، علماً بأن بقية شخصيات 14 آذار المسيحية ترفع الصوت احتجاجاً على اقتحام تيار «المستقبل» مناطقهم من خلال شخصيات مغمورة تتولى الآن تنسيق برنامج المساعدات الذي يتحول إلى «برنامج صدقة» لناحية البونات الموزعة لأجل الحصول على حصة غذائية أو كمية من المازوت، إضافة إلى منَح تخص القطاع الصحي. ويبدو أن نشاط «المستقبل» لا يقف كثيراً على خاطر بعض الشخصيات التي تمثل حيثية حقيقية، مثل حال كل من: بطرس حرب في البترون ومنصور غانم البون في كسروان، حيث النشاط الأكبر. إضافة إلى إنفاق قائم في الشمال وجبيل. ومن دون الحاجة إلى أي نوع من الشروح فإن الهدف الفعلي هو محاصرة التيار الوطني الحر وإضعافه من خلال إحراجه على الصعيد الشعبي، والقول إن الجمهور لا يكتفي بالشعارات، بل هو يحتاج إلى الخبز والعمل.
وفي مثل هذه الحالات، يبرز النشاط الإضافي لشخصية كالنائب ميشال المر، الذي يعمل الآن على استعادة عصبية بين المقرّبين منه أو أنصاره الذين أعطاهم إجازة استمرت لنحو عامين. لكنه شعر بعد الانتخابات الفرعية في المتن الشمالي بأنه لم يعد يقدر على ادّعاء تجيير قوة كبيرة في أي معركة انتخابية مقبلة. بدليل أن الكتائبيين الذين ارتضوه زعيماً في غياب آل الجميل، عاد قسم كبير منهم إلى قواعده سالماً. بينما من كان يعتقد أنه أقرب إلى المر بسبب خصوماته المتفاعلة مع العائلات الإقطاعية في المتن، فقد وجد نفسه أنه أقرب إلى التيار الوطني الحر. وهكذا خسر المر أكثر من نصف أنصاره أو الذين انتخبوا لوائحه منذ عام 1992 حتى الانتخابات الأخيرة، وهو الآن في صدد إجراء مقاصّة مع هؤلاء. وهذا ما حاوله في الاجتماع البلدي والاختياري أخيراً، وحيث تبيّن أن قسماً غير قليل من الحاضرين هم من أصحاب «السوابق» على حدّ تعبير أحد الناشطين المتنيين من الذين قالوا إن المرّ الأب ذكّرهم بالخدمات المخالفة للقانون، أو بما وفّره لهم ابنه وزير الدفاع الياس المر من خدمات، في وقت لاحق. وهو الآن في صدد مراجعة بعدما أظهرت له أكثر من دراسة أو استطلاع رأي أن شعبية التيار الوطني الحر زادت في المتن الشمالي منذ عامين إلى الآن، وإن خسر العماد عون بعض مناصريه من الذين رأوا فيه زعيماً مسيحياً قوياً بعيد عودته إلى بيروت. كما أظهرت هذه الدراسات أن عون هو الأقوى بين الكتل القادرة على تجيير الأصوات في المتن، وأنه إذا تجمّع الكل ضده في الانتخابات المقبلة فإنه سوف يناصفهم المقاعد النيابية.
أما في كسروان وجبيل، فإن الإحباط ساد صفوف الفريق الذي أقنع نفسه وأقنع بعض الشخصيات مثل المرشح الرئاسي العماد ميشال سليمان بأن عون في حالة تراجع تتيح الانقضاض عليه، إذ أظهرت أكثر من دراسة جرت أخيراً أن ما خسره عون كزعيم مسيحي لم يذهب إلى أحد آخر، وأن خصومه يعانون ضائقة شعبية فعلية في هذه المنطقة. فيما ارتفعت شعبية التيار الوطني في البترون، وهو ما دفع بفريق الأكثرية إلى الاستنجاد بمن في يده المال لأجل توفير خدمات يعتقدون بأنها كافية لأجل فضّ قسم من الجمهور المسيحي عن عون. ولذلك بدأت الحملة المنسّقة تأخذ أشكالاً مختلفة، من توفير فرص عمل في لبنان وخارجه إلى تقديم المساعدات العينية وبعض الدعم المالي من أجل خلق حالة بلبلة تترافق مع حملة ذات طابع أمني وسياسي تركز على أن عون لم يوفر الغطاء لحزب الله فحسب، بل هو فتح له المناطق المسيحية كمثل الحديث عن شبكة الاتصالات بين كسروان وجبيل.
من جانبه، لا يتعامل العماد عون بخفّة مع هذا التطور، وهو يدرس بدقة الوضع منذ مدة، وهو لا يخشى كل عمليات التحريض السياسية والشخصية، حيث أثبتت له اختبارات عدة من حرب تموز، إلى اعتصام المعارضة، إلى التحركات والتظاهرات، إلى معركة رئاسة الجمهورية، إلى الخلاف مع بكركي أن شعبيته لم تتعرض لانتكاسة كما ظنّ الآخرون، لكنه يتعامل الآن بجدية مع محاولة فرض أمر واقع من خلال تكريس تدخل المال كعنصر حاسم في اللعبة، لأنه يعرف أن هدف خصومه هو محاولة دفع الجمهور إلى الإحباط من أي تغيير سياسي ثم دفعه إلى الأخذ بلعبة المال السياسي كنوع من التعويض. وهو هنا لا يشعر بمرارة إزاء عملية التجميع التي تجري لكل من له باع طويل في الفساد وسرقة وهدر المال العام. لكنه يلفت الانتباه إلى ضرورة خوض معركة قاسية بوجه هذا الأسلوب والسعي إلى استنفار العصبية السياسية التي تأخذ بالاعتبار أن الحقوق العامة للمسيحيين تتعرض للتهميش، وأن «الصدقة السياسية» القائمة حالياً لن تعوّض المسيحيين شيئاً، بل سوف تزيد من إحباطهم وتحوّلهم إلى فقراء ينتظرون ما بقي على موائد اللئام.