strong>لا مشاهد جديدة وهي ليست طارئة على تجمّع «السكّة» ـــ صيدا. فقراء «تقبلنا» بؤسهم، وتقبلوه أيضاً لكن رغم ذلك تدفعنا كلّ زيارة إلى مكان مماثل إلى استرجاع لقطات فقراء «سينمائيين»، يُفاجأون بـ«غرباء» يقتحمون عزلتهم ويعيدونهم إلى واقعهم المدقع بالحرمان
متعب الدخول إلى «السكّة». فعدا الحواجز الأمنيّة التي يُفترض بك المرور بها، يعوزك جهد إضافي للتأقلم مع اللحظة الأولى التي تنقلك من مدينة صيدا إلى مداخل تجمّعٍ يروي تآكل جدرانه حكايا القاطنين فيه.
في المرّة الأولى التي اجتزنا فيها مدخل السكّة، كنّا خمسة شباب، بعضنا يعمل في جمعيّة المساعدات الشعبيّة للإغاثة والتنمية، فيما البعض الآخر متطوّع للمساعدة في حملة النظافة التي تقوم بها الجمعيّة في التجمّعات الفلسطينيّة الفقيرة. في تلك المرّة، كان التجوّل في قواطع السكّة الأربعة التي لا يميّزها سوى الرقم الذي تحمله، نوعاً من المجازفة، وكانت الحاجة ماسّة إلى أحد سكّان القواطع لمعرفة الوجهة المفترض سلوكها.
حضر «الدليل» وبدأت رحلة بيوت «الزينكو» في الأزقّة الترابيّة الموغلة في الحرمان، نترصّد من نوافذها المشرّعة على الفقر حيواتٍ استنفدت مقوّمات الاستمرار، وتنتظر بين الفينة والأخرى «قفص زعتر» أو مساعدة لتأمين لقمة عيش باتت عصيّة.
في المرّة الأولى تلك، كان يمكن «السكّة» أن تكون كغيرها من التجمّعات المتعبة من الفقر، لولا تعليق صغير يجعلنا نتنبّه إلى خفايا تشرّد 480 عائلة فلسطينيّة و60 أخرى من «النّوَر» المجنّسين، «سرقوا» في يوم من أيّام الاجتياحات الصهيونيّة على بلد شتاتهم قطعة أرض صغيرة قد يتركونها وذاكرتهم هناك، في أيّة لحظة يحلو لأصحابها الأصليين استردادها. حينها لن تكون الدولة اللبنانيّة مسؤولة عمّا قد يحلّ بحياة هؤلاء ولا «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» ولا حتّى «الأونروا»، بحجّة أنّ «التجمّع يقع خارج الامتداد الرسمي لمخيّم عين الحلوة». حجّة تبدو للوهلة الأولى صدمة للكثيرين من زائري الحي، لكن أبناءه اعتادوا هذا الغياب، واعتادوا معه مقولة «دارجة»، عكسوها لتلائم وضعهم، فهنا في السكّة «قلع الشوك من يدك لن يكون إلّا بيدك الثانية».
لا يهمّ. لقد اعتاد أبناء السكّة على فقرهم، ولكنّهم بحاجة لأن يخبروا عنه، وهنا كان الوعد منّا بالعودة ثانية.

«الميني مخيّم»

في المرّة الثانية، بدأت رحلة السكّة من ثكنة محمّد زغيب، حيث كان علينا الحصول على ترخيص الدخول وفي بالنا قصة الطفل علي أبو غولة، الذي اضطرّ لترك دراسته من أجل مساعدة والدته المعوّقة على الدخول إلى الحمّام... ومحمّد عبد الذي يعيش على «الكم ألف» التي يجنيها من تنظيف السلالم في أبنية بيروت.
وللصدفة، لم يكن محمّد، ابن السنوات العشر، في بيروت يوم زيارتنا الثانية للسكّة، فكان هو دليلنا إلى حكايا الناس وما تختزنه زواريب «الميني مخيّم»، كما يحلو له تسميته. في «الميني مخيّم»، ثمّة قصص، أخبرنا محمّد بعضها، وربّما لو كنّا نحن أحد السكّان فيه، لاستطعنا أن نعرفها كلّها، فهنا تشي بالأسرار بيوت متلاصقة، ومشرّع بعضها على بعض، أطفال حفاة يملأون الطرقات الترابيّة بالصراخ، نسوة اجتمعن عند إحدى الجارات «يفرطن» الزعتر لـ«مدام» من حيّ مدينة صيدا...
هذا بعض ممّا تراه في السكّة، وبعد. ألواح زينكو متراصّة صدئة لا ندري كم تحوي خلفها من العائلات. كلّ شيء فيها يوحي بالبؤس باستثناء الشجر الذي يزنّرها. لكن ثمّة استثناءً في أحد هذه القواطع يدفعنا إلى الاستغراب، إذ هناك أبنية من الإسمنت مزروعة بشكل شاذّ عن المشهد العام. ليسوا هم من بنوها، هي موجودة منذ ما قبل نكبتهم، وكلّ من قدم إلى السكّة بعد ذلك حمل ألواح الزينكو معه لتأسيس بيت يعرف بأنّه قد يقضي فيه أيّامه كلّها.
يستردّنا محمّد من شرودنا بسؤاله «بدكن نبلّش من عند أبو يحيى، هو يعرف كلّ شيء تقريباً عن المخيّم؟». نمشي خلفه في «الزقاق» الترابي، تحوطنا الغرف المتراصّة المتشابهة، نسترق من نوافذها النظر إلى أحشائها، فنجد أنّ كل شيء صغير، غرفة الجلوس، المطبخ، كلّ شيء. نصل إلى منزل عضو اللجنة الشعبيّة في التجمّع أبو يحيى، نقرع باب الزينكو، فيزاح ستار من القماش يحجب ما في داخل المنزل عن أعين المتطفلين في الشارع. في الداخل، المنظر يشبه الأزقّة، غرفة النوم والجلوس معاً، والمطبخ في إحدى الزوايا. كان أبو يحيى وحيداً في منزله، مستلقياً على سرير خارج الغرفة. دقائق، ويغوص في سرد حكاية السكّة التي اكتملت العام الماضي مع أحداث مخيّم نهر الباردلم تكن السكّة موجودة قبل عام 1967، ولكن مع بداية النكبات بدأت العائلات الفلسطينيّة المهجّرة من مخيّمي تل الزعتر والنبطيّة، وبعض سكّان المخيّمات المعترف بها رسميّاً، غير القادرين على سداد إيجار بيوتها، بالبحث عن بديل، فأقاموا تجمّعات صغيرة خلف مخيّم عين الحلوة، على أرض المشاع وأملاك بعض المهاجرين. هذا التجمّع، على الرغم من صغر مساحته التي لا تتعدّى 300 كلم2، يضمّ اليوم 480 عائلة، أصغرها يتكوّن من ستّة أفراد.
يعتاش الأهالي هناك على جمع الألومينيوم والتنك، أو ما اصطلح على تسميته بمهنة «الرابش» التي ما عادت تكفي أجرة المواصلات إلى مكان جمعها أو حتّى لقمة العيش اليوميّة. ومن بقي خارج تلك المهنة حاول إيجاد ما يسدّ به رمقه، ملتزماً أيّة مهنة قد تكون مطلوبة خارج التجمّع، «كالعمار والدهان»... أو أيّ شيء آخر باستثناء الوظائف الثابتة، التي لم تحظ بها السكّة يوماً.
ومن لم يجد شيئاً، استلقى على فراشه، بانتظار معونة أو زوجة قد تسعفه في إطعام أطفاله فقط، وهي الحال نفسها التي وصل إليها أبو يحيى بعد المرض الذي ألمّ به والخلافات مع عائلته.
في زاروب آخر، بيت يشبه بيت أبي يحيى في فقره وأوضاع العائلة التي تقطنه. إنه منزل أبي خليل وابنه وزوجته الحامل في شهرها الثالث. ثلاثة يعيشون «ع الله، إذا فرجها»، وإن لم يفرجها «بنموت على البطيء». فأبو خليل لا يمكنه العمل في أي شيء، لأنّه فقد عينيه أيّام الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، حيث كان يعمل راعياً وانفجر به صاعق قنبلة. كان من الممكن أن يحتفظ أبو خليل بإحدى عينيه في حينها، ولكن «تنعاد عليك، طفيت بعد عدّة أشهر بسبب قلّة المال».
أمّا زوجته، فلا تستطيع مبارحة الفراش منذ شهر تقريباً بسبب أوجاعها، وهو لا قدرة له على إرسالها إلى طبيب، والسبب كالعادة «المال». وابنه الذي لا يعرف عنه سوى أنّ اسمه خليل، لا يجد ما يلعب فيه سوى التراب أو «نصف بيسكلات»، أو مجالسة والدته.
نكمل الجولة. على بعد بضعة ألواح زينكو «تتكمّش» أم كامل بالمارّين الغرباء. نسألها عن أحوالها، فتسرد قصّتها من دون اكتراث لهويّة السامع «أنا مريضة بالسرطان وأحتاج إلى العلاج، وابني الضرير لا حيلة له على إعالتي، والأونروا لم تعطني الدواء منذ شهرين تقريباً، لأنّهم عرفوا أنّ أحدهم تبرّع لي بقيمة الدواء على مدى شهر». تنهي كلامها وتركض حافية إلى «صرّتها»، تسحب منها ورقة الطبيب وتعطينا إيّاها لتدوين اسم الدواء في أوراقنا. وعندما تتأكّد من أنّنا سجّلنا، تبادر إلى السؤال «بدّك تبعتيلي شي؟ بعد 3 أيّام بيخلص الدوا».

الكهرباء والمياه

السكّة التي تؤوي مئات العائلات، تفتقد أبسط مقوّمات البقاء على قيد الحياة. لا تجد فيها سوى بضعة محال «سمانة» ببضاعة محدودة. وما عدا ذلك، يقصد سكّانها مخيّم عين الحلوة وضواحي مدينة صيدا لشراء ما يستطيعون من لوازمهم بعد موجة الغلاء التي طالت كلّ شيء.
وبالنسبة إلى المقوّمات الأخرى، تعيش السكّة على «كهرباء مخيّم عين الحلوة». أمّا المياه فلها حكاية أخرى شبيهة بحكايا التجمّع. فمنذ ثلاث سنوات فقط، وصلت مياه الشفة إليه، حين قامت جمعيّة المساعدات الشعبيّة للإغاثة والتنميّة بحفر بئر ومدّ شبكات إلى القواطع. قبل هذا التاريخ، كان السكّان يحملون عبوات المياه على «البيسكلات أو العربة أو في أيدينا، من خندق حفرناه لنقل المياه من عين الحلوة».
أمّا المدارس، فلا مجال للحديث عنها، لأنّها ليست موجودة أصلاً، وليس هناك متعلّمون في السكّة، وحملة الشهادات فيها لم يتخطوا يوماً نسبة الـ3%.
لا مدرسة إذاً، وبالتالي لا أطفال في المدارس، باستثناء بعض الأهالي الذين يحرصون على التعليم، متّبعين نظاماً خاصّاً للتسجيل بحسب عدد الأولاد، عامدين إلى تقسيمهم بين المدرسة والشارع تبعاً «للقدرة الاستيعابيّة عند كلّ ولد». ومن خابت قدرته الاستيعابيّة، لم يجد سوى الشارع ملاذاً أو العمل مع والده أو أقربائه في مهنة «الرابش»، التي يواجهون فيها الكثير من المتاعب، وخصوصاً مع الحواجز الأمنيّة حيث تنفرد السكّة بأربع نقاط أمنيّة تابعة للجيش اللبناني. هذا الإجراء سينسحب أيضاً على اللجنة الشعبيّة في التجمّع التي ستكلّف، في تموز المقبل، مندوبين عنها لمرافقة أيّ وفد أو أيّة جمعية تدخل السكّة، ووضع تقرير عن كلّ زيارة لحماية التجمّع من أيّ خرق، وخصوصاً مع النظرة الجديدة للمخيّمات.


حتى الأحلام... تشبههم

لم تنته حكاية السكة بعد... فعلى أطرافها ثمّة فقراء آخرون. هم ليسوا فلسطينيين، ولكنّهم مشرّدون من بلدهم سوريا، ويعيشون في بيوت الزينكو أيضاً وأحياناً الخيم. هؤلاء لا يعترفون كثيراً بجنسيّتهم السوريّة السابقة، يفاخرون بأنّهم لبنانيّون، أو كما يسميهم بعض جيرانهم الفلسطينيين «نَوَر مجنّسين»، وهي التسمية التي لا يقبلها محمّد «الدليل»، مبادراً إلى التأكيد بصوته العالي «نحنا لبنانيي».
أيّاً يكن، لبنانياً أو «نورياً مجنّساً» أو سورياً، الحال نفسها من الفقر.
هنا، في الزاروب الأخير من السكّة، تقطن 60 عائلة من هؤلاء. ورغم التشابه الكبير مع جيرانهم، إلّا أنّ ثمّة ما يميّزهم ويتعبهم في الوقت نفسه، إذ إنّهم مضطرّون لتبديل لغتهم في حديثهم مع «الآخر». وتشير فطّوم إلى أنّها «تتلخبط» في الكثير من الأحيان، «فمرّة بنحكي عربي ومرّة كردي، وبعد شوي رح نصير نحكي عبري».
المعاناة نفسها... تمرّ في أحد الزواريب، فتتعثّر بتسعة أطفال حشروا أنفسهم في عرض الطريق التي لا تتّسع لثلاثة. يحاولون اللعب، لكن عبثاً. تسعة أطفال وطابة واحدة!؟ نسألهم عن أسمائهم فتأتي الأجوبة مترافقة مع قصّة حفظوها غيباً، ربّما لأنهم في عمر لا يفقه معنى ألمها «نحنا يا خالتو بنعيش مع خالتي، لأن أمّي مكموشة، سرقت الدهب لعمّي عبّاس، وبييّ كمان مكموش».
تسعة، أحلامهم تشبه فقرهم. «أكبر» حلم لجمانة، الفتاة الكبرى بينهم «صير مثل خالتي، أكنس وأمسح وأشطف وأطلّع مصاري». أما الأحلام الأكثر «تواضعاً» فقد لا يتعدّى أقصاها «عيشة ع قدّ الحال» تقي من العوز الذي ينذر القاطنين في السكّة في كلّ لحظة.