صباحاً كان الجميع متأهبين في كورنيش المزرعة. عناصر الجيش خلعوا عتاد مكافحة الشغب، لكن هدوءاً حذراً سيطر على هذا المحور. لكن المسلّحين كانوا ظاهرين. استمرت الاستفزازات الكلاميّة بين الطرفين طوال النهار إلى أن بدأت معارك رأس النبع حوالى الخامسة مساءً، إذ حاول مسلّحو طريق الجديدة مساندة زملائهم فاشتعلت حرب شوارع وقنص
ثائر غندور

انتهت كلمة الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله. بدأ الفتية بالهتاف لأبي هادي. لم يستمرّ الهتاف طويلاً، كان صوت الرصاص أعلى منه بكثير. فمن دون أي إنذار، انطلق رشق من الطريق الجديدة صوب بربور. تأهّب المسلّحون هناك. غطّوا وجوههم باللثام وردّوا على النار بالنار.
يصل مسؤول في التعبئة التربويّة لحزب الله. يهدّئ الفتية ويقول لهم: «الشباب قرّروا حسم المعركة في رأس النبع، وهم يُسقطون المركز الأخير لتيّار المستقبل في المنطقة، وما هذا الرصاص الذي يُطلق إلّا ردّاً عصبياً على ما يحصل لهم هناك». وأضاف الشاب أنّ هذه الرشقات لا هدف عسكرياً واضحاً لها. كما شرح لهم أنه عندما تدور معارك جادّة في هذه المنطقة، فسوف يأتي شبّان آخرون مكانكم.
هدأ هؤلاء الفتية قليلاً، لكن الرصاص لم يهدأ.
سيطر رعب على فتية أرادوا إظهار شجاعتهم. فبدأوا يركضون بين مفترق طُرق وآخر. فعلا صوت حملة السلاح، آمرينهم بالركون إلى مدخل إحدى البنايات.
استمر الوضع لنحو ساعة من الزمن، في تبادل رشقات ناريّة، من دون أي هدف لها. هنا دخل القنّاص إلى الساحة. طالت رصاصته أنبوب ماء فوق رأس أحد المقاتلين. خلال كلام نصر الله، نادانا أحد المقاتلين. طلب منّا الجثوم وقال: «راقبوا الشبّاك في الطبقة ما قبل الأخيرة من مبنى بنك عودة». بعد دقائق، يطلّ أحد الشبّان من ذاك الشبّاك. «هذا هو القنّاص الذي سيشغل بالنا»، يقول المقاتل الذي يبلغ من العمر حوالى الخامسة والعشرين، «لكن ممنوع إطلاق أي رصاصة من دون أمر»، يقول الشاب ويضيف: «يا ليتهم يسمحون لي باصطياده الآن». وسيعاني المقاتلون الأمرّين من هذا القناص لاحقاً.
بدأت التعبئة التربويّة بسحب الفتية من الأرض، لكن مسلّحي حزب الله لم ينزلوا، وحتى الساعة التاسعة ليلاً كان مسلّحو «أمل» مسيطرين على الوضع.
عندما تدخّل القنّاصة، كان لا بدّ من قاذفات البـ 7 «للردّ على هؤلاء الأغبياء» يقول أحد الشبّان. يطلب من زميله حامل القاذف أن يبدأ بإطلاق القذائف. وتنطلق أول قذيفة، يلحق بها تكبير من الشباب. تلك القذيفة لم تنفع. بقي القنّاص يهدّد الجميع. وصل الـ«بي. كي. سي». صفّق له الشباب. عاملوه كطفلهم المدلّل. داعبوا رصاصته مرّات كثيرة، وعندما رُميت قذيفة «أر. بي. جي» بعيداً عنه بأمتار، نام أحد الشباب على مخزن الذخيرة التابعة له.
نركض من الزاروب المقابل لجامع عبد الناصر صوب زاروب آخر. كان علينا التعرّف على مقاتلين جدد ونسج علاقة معهم لأن «الصحافة تُخيفنا».
نقترب أكثر من ذاك الشاب الذي يُطلق قذائف الأر بي جي. وجهه يدلّ على قساوته. يرفض مطالب الشباب بإطلاق قذيفة كلّ حين. يشتدّ إطلاق النار. تفرغ «أمشاط» الشاب الملتزم تلك الزاوية. يقترض «مشطين» من زميل له، ولكن ليس في حركة أمل، ويبتعد عن الزاوية، فاسحاً المجال لآخر، أمّا هذان «المشطان» فسيبقيان في الجعبة «إذا ما اضطررنا إلى الانسحاب، وعندما أعود إلى المركز سأقول للشباب إنهما ليسا لنا، وعلينا ردّهما لأبرّئ ذمتي».
يبدأ الشباب بمناداة قيادتهم: «نريد ذخيرة». لم يطل انتظارهم ووصلت الطلقات، تكفّل غير المقاتلين بتعبئتها بالأمشاط.
علا صوت الآذان. وقف صوت الرصاص لدقائق. توهّم بعض الصحافيين أن الجولة انتهت. لكن المسلّحين لم ينتظروا انتهاء الآذان حتّى يعودوا إلى جولة أخرى من الرصاص.
عند حوالى السابعة مساءً، يُسمع صوت آليّات الجيش. تحرّكت المؤسّسة العسكريّة الرسميّة. يجلس المسلّحون على الأرض. تأتي الأوامر عبر الأجهزة اللاسلكيّة: ممنوع إطلاق النار إلّا بأمر. «بدأت الهدنة»، يقول أحد المقاتلين. لكن للقنّاص كلاماً آخر. طالت رصاصته الأرض بين قدمي أحد ضبّاط الجيش. يتراجع «هؤلاء المساكين» كما يصفهم أحد المقاتلين الخائف على الجيش من انقسامه.
يلعلع الرصاص مجدّداً، وتصل معلومات جديدة إلى محور كورنيش المزرعة: الاشتباكات وصلت إلى الضنّاوي والملّا والزيدانيّة وكركول الدروز... يبتسم أحدهم، «فالمستقبل ينهارون شيئاً فشيئا». بدأ يروي لنا عن مهارته ومهارة زملائه العسكريّة، «فلو كان لديهم أي جرأة لكانوا ضربوا علينا قذيفة أر. بي. جي. ونالوا منّا».
خفت صوت الرصاص قرابة الثامنة مساءً. لم تعد تُسمع إلّا رشقات تفصل بينها دقائق. لكنّ القنّاص بقي في ذلك المبنى، ملقياً الرعب على الجميع. كان على كل الصحافيّين المشي كالبطّة للوصول إلى معدّاتهم. المسلّحون علموا بأن الليل سيبقى طويلاً. تركناهم وهم ينتظرون ما سيحصل في الطريق الجديدة.