ابراهيم الأمينالحسم الميداني للمعارضة في غالبية أحياء بيروت لا يبدو كافياً لإحداث تحوّلات نوعية حاسمة في المشهد السياسي الداخلي. وهذا لا يقفل الباب أمام احتمال لجوء فريق 14 آذار إلى خطوات احتوائية تتمثل في استقالة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة والتواضع لناحية حجم التمثيل الذي تمثّله في البلاد، وتذهب نحو حوار ينتج تفاهماً مقبولاً على ملفات الرئاسة والحكومة وقانون الانتخابات. وإذا لم يحصل ذلك، فإن المتوقع هو استمرار الأوضاع على النحو الذي يقوم الآن، لا بل ربما تتجه الأمور إلى تصعيد إضافي، ولكن هذه المرة بطريقة تنقل المعارك العسكرية إلى بقع لا تتوقع قوى السلطة أن تحصل فيها أي تطورات.
وإذا كان العنف مرفوضاً بصورة عامة من الجميع، وما جرى في بيروت لم يكن أحد ليرغب في حصوله. إلّا أن الواقعية السياسية تفرض قراءة الأمور بطريقة مختلفة، تأخذ بعين الاعتبار أزمة الثقة غير المسبوقة بين الأطراف المتنازعين، وليس في حدود سوء الفهم أو سوء التفاهم كما قال النائب سعد الحريري، لأن ما قاله وليد جنبلاط بسذاجة عن أنه يستغرب كيف أن قراراً بنقل ضابط يستدعي هذه الحركة، فإن جنبلاط كان قد تلقّى نصائح، وكذلك الحريري والرئيس السنيورة لجهة عدم اتخاذ القرار، لأنه سيقود إلى أزمة، ومع ذلك فإن الحكومة التي تعاني أزمات كبيرة لا مجال للخروج منها بالدعم الخارجي فقط، لم تأخذ التحذيرات بجدية، وتعاملت مع موقف المعارضة على أنه احتجاج من النوع الذي ينقضي مفعوله خلال يومين على أبعد تقدير. وتجاهل هذا الفريق الشعور القوي بالاضطهاد والإقصاء الذي عانته قوى المعارضة، بما تمثّل سياسياً، وحتى على مستوى تمثيلها الطائفي. ومضى في خطته حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.
ومع ذلك، فإن الانهيار الذي أصاب البنية العسكرية الشكلية لفريق 14 آذار في بيروت ومحيطها، لم يشمل فقط العناصر الذين جرى تدريبهم وتجميعهم بفوضى وخفّة لا سابق لهما خلال العامين المنصرمين، وهي العملية التي استندت إلى تعبئة قامت على هياج عاطفي إثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري، وجرى النفخ فيها حتى صوّرت بأنها تمثّل واقعاً يصعب تجاوزه، ثم جرى إيهام الناس بأن فريق السلطة يمثّل الأكثرية الحقيقية في لبنان، وصار أقطاب هذا الفريق يفبركون حكايات عن لبنان واللبنانيين، وينشرونها عبر وسائل إعلامهم ثم يصدّقونها هم ويتصرفون على أساس أنها حقائق، إلى درجة أنه ليس هناك أي تفسير سياسي أو عقائدي أو إنساني أو حتى أخلاقي لتمسّك الرئيس السنيورة بمنصبه: هل هو ينتظر المزيد من الدم والنار في بيروت وبقية المناطق، هل هو يصدق فعلاً أنه يمثّل قيم الحرية السيادة والاستقلال؟ أم يعتقد فعلاً أنه يمثّل المخلّص للأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية التي يتحمّل هو نفسه جزءاً كبيراً من المسؤولية عن خططها ووسائل تنفيذها؟ أم هو يعتقد أن جحافل من اللبنانيين سوف تسير على طرقات لا تتسع لها تطالبه بالبقاء في منصبه وتفديه بروحها وأولادها وما بقي من أموالها؟
إلا أن المشكلة لا تقتصر على هذا الأمر، بل تتجاوزه إلى المكان الأكثر خطورة وحساسية داخل فريق 14 آذار، وتحديداً إلى «أميرَي الحرب» وليد جنبلاط وسمير جعجع، حيث يعتقد الأول أن بمقدوره خوض المزيد من الحروب بواسطة أجساد وممتلكات الآخرين، وحيث يظن الثاني أن بمقدوره خوض معارك يعوّض فيها عن هزائمه التاريخية، ويرسم مجدّداً صورة جديدة تعيد إليه صور الدويلات المغلقة الصافية إلا من الذين يسبّحون بحمده. ويبدو أن كلاً من جبنلاط وجعجع لم يستوعب بعد البرقية التي أُرسلت عبر ما جرى في بيروت، أو هكذا على الأقل هو انطباع قيادات بارزة في المعارضة، تعتقد أن التحول السياسي يجب أن يقوم على قاعدة إنهاء حالة الورم التي قامت خلال العامين الماضيين، وجرى تضخيمها ونفخها بوسائل متعددة، وإعادة الجميع إلى حجمه الطبيعي، حيث سيظل تيار «المستقبل» يمثّل القوة الأكبر بين السنّة، وسوف يظل آل الحريري يمثّلون العنصر القيادي لأكثر من نصف السنّة في لبنان، لكن بالتأكيد أي قيادة أخرى بين السنّة سوف تجد الطريق أمامها سهلة لإبراز ما تمثّل إذا كان هذا التمثيل حقيقياً، وستجد أن الإمساك بالدولة ومؤسساتها من رقبتها لم يعد أمراً ممكناً، كما أن جنبلاط لا يمثّل لا على المستوى الطائفي ولا على المستوى السياسي ما يجعله شريكاً كاملاً في القرار، وهذه حقيقة يجب أن يتعوّدها هو ومن يعدّه ناطقاً باسمه، والنزعة «الجبل لبنانية» التي تحكّمت في عقله هو وأمين الجميل ودوري شمعون وكارلوس إده وآخرين من القيادات البائدة، لم يعد لها مكان في المشهد السياسي الحقيقي للبنان عام 2008، والدور الإضافي للبنان خارج حدوده، ليس لهؤلاء أي دور في بنائه أو المحافظة عليه. بل يمثل هؤلاء إلى أن يقضي الله أمره حالة بحجم التصاقهم بالقوى الجديدة التي تمثل غالبية فعلية بين اللبنانيين، وإذا نجح حزب الله والتيار الوطني الحر وتيار «المستقبل» وبعض القيادات في تمثيل ما هو جديد في التوزع الديموغرافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي في لبنان، فإن الآخرين هم في مرحلة الالتحاق لا أكثر، وهذه حقيقة قاسية، ولكن المهم أن لا تحتاج البلاد إلى ما يشرح لها الأمر بصورة دموية.
ما قاله السيد حسن نصر الله في مؤتمره الصحافي أول من أمس، لم يكن يمثّل حالة غضب من جانب قيادة سياسية محلية، بل كان يمثل نقطة التحول التي تأخرت في لبنان، والتي حالت دون ترجمتها ظروف كثيرة بينها العفن العالق في العقل السياسي الفردي والجماعي، وبالتالي فإن منطق التغيير سوف تكون له كلفته، ولكن الأكيد أن بيد فريق كبير من اللبنانيين أن يجعل هذه الكلفة محدودة وغير قابلة للتوسع، إلا إذا كان هناك فعلاً من ينتظر الأساطيل من البحر، وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد بأن الجولة الأولى من عملية التغيير قد لا تكون كافية، وقد يكون بعض لبنان مقبلاً على جولات سوف تكون أشد قساوة بالتأكيد!.