خطّ تماس جديد، ملامحه ارتسمت مع أحداث «الخميس الأسود» من العام الماضي، إنّها منطقة وطى المصيطبة. من يومها، انقسمت المنطقة إلى حي شرقي ذي أغلبيّة معارضة، وآخر غربي ذي أغلبيّة موالية
هاني نعيم

منذ اليوم الأوّل للأحداث، كانت وطى المصيطبة كغيرها من المناطق في حالة استنفار من الصباح الباكر، وقد حصل اشتباك مسلّح بين «الشرقي» و«الغربي»، وهذا كان أوّل إشارة إلى التوقّع المسبّق بخصوص أن الأحداث هنا ستكون عنيفة، وعليه جرى إفراغ «الشرقي» من الأهالي والمدنيين، وبقي عدد ضئيل جدّاً من النساء إلى جانب أزواجهم وإخوانهم، وهكذا، المقاتلون هم الأكثريّة هنا.
ليلة أوّل من أمس، كان الاستنفار والتأهب بدرجاته القصوى، حيث الاشتباكات لم تتوقّف منذ الظهر إلى منتصف الليل، المقاتلون انقسموا إلى مجموعات صغيرة بأسلحتها الرشّاشة المتراوحة بين الصغيرة والمتوسطة وقواذف «آر بي جي». انتشرت في أرجاء الحي وزواريبه، على مداخل البنايات، في الزوايا، وعلى سطح مبنى «كلية الإعلام» سابقاً، والتابع لنقابة المهندسين حالياً، وهو يعدّ الأعلى في المنطقة، ويطلّ على جميع الأحياء في وطى المصيطبة، وعلى بعض أحياء طريق الجديدة، وهذه البناية تعدّ الحصن الأساسي في الحماية للحي.
وأيضاً خلف الجدران ينتشرون، خوفاً من القنص، حيث إنّ الحي يتعرّض منذ اللحظة الأولى بين وقت وآخر إلى نار قنّاصة متمركزة على البنايات في طريق الجديدة، والمطلّة على الحي، «انتبه كيف واقف، هيدي الأمور دقيقة كتير» قالها المسؤول الميداني لأحد الشباب اليافعين المقاتلين، والتعليمات بهذا الخصوص دائمة الحضور، ما يدلّ على أنّ الشباب المشاركين في «الحسم» هم من المخرّجين حديثاً من مخيّمات التدريب العسكري.
من الصباح الباكر ليوم أمس، كان المقاتلون في اطمئنان، واسترخاء، يتابعون الأخبار العاجلة عبر التلفزيونات الموزّعة في البيوت، حيث ناموا، ومع كل «عمليّة فرار لعناصر المستقبل» كان الارتياح يظهر أكثر على ملامحهم. تناولوا الترويقة، وليبدأ نهارهم الطويل.
الساعة 12:05، سمع صوت الرصاص من طريق الجديدة، عاد الاستنفار. يسأل أحدهم «ع أساس سلّموا السلاح، كيف عاد الرصاص؟»، يرد عليه آخر «ما تعطل همّ». وفي مكان آخر، يسأل أحدهم «إذا كانوا يعرفون أنّ وضعهم الميداني غير قابل للصمود، ليش قاموا بالتحريض والتعبئة؟»، ويرد عليه آخر «كانوا يرون أن الحزب (أي حزب الله) لن يردّ ويحاربهم، ولكن اليوم عرفوا معنى أن يتهجّموا علينا».
منذ ليلة أمس، سلّم الحزب التقدمي الاشتراكي مركزه الرئيسي في بيروت، والواقع قرب المزرعة، إلى الجيش اللبناني، ولكن المقاتلين يريدون السيطرة الميدانية على المنطقة. بالتالي، سيقومون باقتحام الحي الغربي. جرى التنسيق مع قياديين ميدانيين في الحزب الاشتراكي لإخراج المقاتلين الاشتراكيين من الحي الغربي، كي لا يكون هناك إراقة للدماء، وبذلك تصبح السيطرة ممتدة على «الغربي» و«الشرقي»، وذلك «لنحمي ظهرنا» قالها أحد القياديين العسكريين موضحاً سبب دخول المجموعات العسكرية إلى الحي المقابل.
بعد خمسة وعشرين دقيقة، يبدأ المقاتلون بالتجمّع، بصفّين، كل صف لديه آمر خاص به، يأمرهم القائد الميداني بالجلوس. التعليمات واضحة وصارمة، «سننزل إلى الحي، لن نطلق النار إلاّ على مصادر النيران، إذا تعرضنا للرصاص، سنعالج النقطة التي تهاجمنا فقط»، قالها أحد القياديين الميدانيين بتوجّهه إليهم.
الساعة 1:15 ظهراً، عادت المجموعتان، تحت تغطية «مجموعة التأمين» التي حمت ظهرها من أيّ هجوم قد يحصل. «للأسف لم نستطع الوصول إلى المركز (أي المركز الرئيسي للاشتراكي) لأنّ الجيش هناك بكثافة» يقولها أحد المشاركين بالدخول إلى الحي الغربي. ولحظة عودتهم، بدأت الاتصالات عبر الأجهزة اللاسلكيّة والخلوية، فكل قائد ميداني عسكري يتصل بقيادته الحزبية ليعلمها «أنّ الوضع تحت السيطرة»، وهذه العبارة تكاد تكون الوحيدة لدى هؤلاء.
المقاتلون لم يشعروا بأزمة الخبز، فالغذاء يأتيهم في وقته، ثلاث وجبات في اليوم، أما المدنيون الذين بقوا هم الوحيدين ربّما الذين شعروا بهذه الأزمة، فـ«ذهبتُ إلى حدود المزرعة لشراء ربطة خبز، حيث هناك «فان» يبيع الخبز، والمحالّ لا تبيع الخبز» هذا ما قاله ربّ أسرة بقيت في الحي.
أحد المقاتلين الشباب المشتركين في المعارك، يحدد سبب مشاركته «لا أريد الدخول بالعقائد»، «إنّي أقاتل أناساً دافعنا عنهم، ويريدون سحب السلاح منّا»، وبالدرجة الثانية يقاتل لأن «هم الذين بدأوا بقتالنا والتعدي علينا»، ويروي أن «الخميس الأسود» كان انطلاق الشرارة لهذه الأحداث.
الساعة 2:30 ظهراً، حان وقت الغداء، مجموعات صغيرة تبقى في مكانها، تراقب الشوارع والبنايات المحيطة للحي، وغذاؤها يأتي إلى حيث هي، «رغم حسم المعركة، الحذر واجب» يقول أحد العناصر المقاتلة.
ما قاله ذلك المقاتل، كان في محلّه، إذ تعرّض الحي للقنص في الساعة 3:05 من جهة طريق الجديدة، يستنفر الحيّ بكل مقاتليه، المشاورات تبدأ بتحديد مصدر النار، ولكن دون جدوى.
منذ الساعة الرابعة، بعدما حسمت الأمور لمصلحة المعارضة، الاسترخاء عاد إلى المقاتلين، ولكن بحجم أكبر هذه المرّة، وعددهم تقلّص في زواريب الحي، كما أنّ الشمس عادت لتطل بخيوطها بعد ليلة عاصفة مناخيّاً وعسكريّاً.