أبرز المفاجآت الميدانيّة أمس كانت في المساحة الممتدّة بين مربّعي قريطم وكليمنصو حيث الثقل العسكري لتيّار المستقبل. ففي أقلَّ من ساعتين، كانت الأعلام الحريريّة تسقط لترفرف في سماء العاصمة أعلام الحزب السوري القومي الاجتماعي
غسان سعود

كان الصغار نياماً حين تسلّل الكبار إلى الشارع ليضيفوا بعض الجدِّ إلى اللعبة. فأطلق قرابة الرابعة فجراً بعض قنّاصة المستقبل الذين كانوا يتمركزون في المبنى السابق لتلفزيون «المستقبل» في الروشة الرصاص على حرّاس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذين كانوا يحيطون حزبهم قبالة التلفزيون. لم يعضَّ الحزب على الجرح كما فعل خلال ثلاثة استهدافات أمنيّة على الأقل خلال السنتين الماضيتين، فتحرّك مسلّحوه بسرعة ليحاصروا مبنى التلفزيون. هذه هي رواية بدء المعارك، بحسب أبرز مسؤولي القومي العسكريين، لعمليّة مخزية أدّت إلى إحراق وسيلة إعلاميّة. خلال دقائق، وبعد رسائل رصاصيّة موجّهة بدقّة من شباب القومي، استسلم شبان المستقبل في المبنى المجاور للتلفزيون. وبعدها بدقائق جرى الاستنجاد بالجيش للتدخل وإنقاذهم. ومن الروشة، تحرّك القوميون، الذين تخطى عددهم ثلاثمئة مقاتل مجهّزين بعتاد كامل من الأسلحة الخفيفة، في اتجاه كراكاس (مشارف قريطم الجنوبيّة) حيث كان يتوقع أن تقابلهم مواجهة شرسة من مقاتلي المستقبل. لكن هؤلاء، يقول أبرز قادتهم الميدانيين، أطلقوا بضع رصاصات وكانوا يلحقون خسائر «بالمعتدين». ثم فوجئوا بالجيش يتوسط معهم لإخلاء مقرّهم. وأكد الضابط المسؤول أن الجيش سيتمركز في المكان ويفصل بين المتقاتلين. لكن بعد موافقتهم، يقول الأمنيّ المستقبليّ، فوجئوا بانسحاب الجيش مخلياً المكان أمام مقاتلي المعارضة.
هنا، يروي أحد القوميين: «مع إطلالة الفجر كنّا عند كراكاس، نتقدم بسرعة، سيراً وعلى الدراجات الناريّة وفي سيارات الجيب. ما إن يطل القنّاصة حتى كانت البناية تحاصر، ويجبر المقاتل على الاستسلام. ولم تستغرق معركة شارع الحمرا أكثر من ساعة، فأطلت الساعة السادسة صباحاً، والأعلام السوداء المرقّعة بزوبعة القوميين ترفرف فوق شارع خالد علوان بطل عمليّة الويمبي.
هذا التقهقر يعيده مسؤول المستقبل ـــــ القيادي السابق في حركة المرابطون ـــــ إلى ثلاثة أسباب رئيسيّة: أوّلها الشلل التنظيمي الذي لحق بأمن المستقبل منذ أول يوم في المواجهة، موضحاً أثناء تنقّلنا معه من نقطة عسكريّة إلى أخرى داخل مربع قريطم، أن القائد الرئيسي للجهاز الأمني، النائب السابق سليم دياب، لا يتمتع أصلاً بعقل أمني، وهو يحيط نفسه بوصوليين يربطهم الربح المادي حصراً بتيار المستقبل، ما دفعهم إلى إغلاق هواتفهم الخلويّة والاختفاء منذ إطلاق الرصاصة الجديّة الأولى للمعركة. أضف إلى ذلك الانسحابات الضخمة والمفاجئة التي لحقت بمقاتلي شركات المستقبل الأمنيّة، الأمر الذي أربك الباقين.
ثانيها، عدم استعداد مقاتلي المستقبل لمعركة مع مقاتلي حزب الله، إذ إن معظمهم كانوا يعدّون أنفسهم لمواجهة مع بعض أتباع المعارضة في المناطق السنيّة والدرزية أمثال النائب أسامة سعد والوزيرين السابقين وئام وهّاب وعبد الرحيم مراد.
أما ثالثها، فيتعلق بعدم خبرة القناصة وخوفهم من الرشاشات التي يحملونها، يتابع المسؤول نفسه، ساخراً من «الجيل المدلّل» الذي ارتعب من رؤية المقاومين المدججين بأحدث الأسلحة يتقدّمون بخفّة استثنائيّة.
بعد إمساكهم بشارع الحمرا، يقول أحد مسؤولي القومي الميدانيين، بدأت المعارك في الشوارع المتفرّعة يميناً وشمالاً. لكن كان المقاتلون يفاجأون «بهرهرة» ميليشياويّي المستقبل. واللافت، كما يقول القومي الشاب، أن أهالي الحمرا الذين يعرفون شباب الحزب جيداً كانوا يتدخّلون في بعض الحالات الحرجة للتوسّط مع ميليشياويّي المستقبل ليسلّموا أنفسهم للجيش «حقناً للدماء». وقبل الثامنة صباحاً، كانت المعلومات في غرفة عمليّات القومي تشير إلى استسلام معظم مقاتلي المستقبل (أكثر من 3000) في كل مراكزه في الحمرا ومحيطها (باستثناء مركز واحد داخل مربع قريطم)، وعددها ثمانية: المبنى السابق لتلفزيون المستقبل، المبنى المجاور لوزارة الاقتصاد، مكتب المستقبل المقابل لمطعم الشيخة، بناية may fair في حي جان دارك، مكتب المستقبل في طلعة شوران، قصر بشارة الخوري قبالة تلفزيون أخبار المستقبل، مركز المستقبل العسكري مقابل مطعم الجزيرة في منطقة الظريف، مركز التنمية الذي كان يتمركز فيه مقاتلو المستقبل في عائشة بكّار، والمركز الرئيسي لميليشيا المستقبل في أوتوستراد قريطم.
ويشرح عميد الطلبة في القومي صبحي ياغي، الذي «تعسكر» أمس، أن سقوط هيمنة الأكثريين على بيروت سببها أولاً، أن من يقاتل لقاء مبلغ مادي زهيد لن يعرّض حياته للخطر. وثانياً، أن الأهالي شعروا بعبثية العناد الحكومي ورفضوا الانجرار إلى تقاتل لا يحمل معالم قضيّة. أما السبب الثالث فيتعلق بهوية المقاتلين في الحمرا وهم جميعاً من قوميي الحمرا الذين تجمعهم بأهل المنطقة علاقات ومعارك مشتركة، فسقطت بذلك وسيلة التوتير المذهبي التي يستخدمها تيار المستقبل لدفع الناس إلى قتال إخوتهم. ويختم ياغي كلامه، وسط «الرفاق» الذين انتشروا على طول جانبي الطريق في شارع الحمرا ومتفرعاته يميناً ويساراً، بالتأكيد أن المستقبل أثبتوا أنهم أشبه بـ«غزل البنات»، وسط تأكيد الشبان الفرحين بعودة القوميين إلى بيروت أن العاصمة استعادت هويتها.