ابراهيم الأمينيصعب توقّع تسوية سريعة. لا يعني هذا الكلام أنه من المستحيل التوصّل إلى توافق من شأنه تبريد الجبهات الأمنية، وتوقف إطلاق النار في مناطق بيروت والجبل بجانبيه الجنوبي والشمالي. ذلك أن الأمر لا يتعلق بالحسابات الميدانية وحدها. صحيح أن توازن القوى انفرط بصورة غير قابلة للتصديق، وسيسحب نفسه على كل المناطق التي فيها اختلاط وتداخل بين المعارضة والموالاة.
ورغم أن ما قامت به المعارضة في بيروت وفي الجبل ومناطق أخرى من لبنان، بما فيها ما يجري في المناطق المسيحية (سوف يكون هناك فرصة للحديث عن معركة صامتة جاءت نتائجها أسرع من نتائج معركة بيروت المدوية)، فإن ذلك يحقق للمعارضة نتيجة واحدة غير قابلة للصرف في أمكنة أخرى أو في أوقات أخرى. وهي دفع الفريق الآخر دفعاً نحو التسوية، وربما يحصل ذلك على طريقة «ومنهم من يدخل إلى الجنّة بسلاسل».
وإذا كان هناك من حاجة إلى تذكير أحد، فهي تذكير قادة المعارضة، ولا سيما السيد حسن نصر الله، بأن الهدف من أي تحرك احتجاجي سلمي أو عنفي هو الوصول إلى الشراكة الفعلية في السلطة. وهذا يتطلب مصالحة جدية. ومدخل هذه المصالحة الآن، هو فتح كوة في الجدار الفاصل بين حزب الله من جهة وتيار المستقبل من جهة أخرى.
وإذا كان في أوساط المقرّبين من آل الحريري من ينفخ في نار الحقد الذي ينمو في تربة الإحباط، فإن ذلك لا يفيد على المدى البعيد، لا لأن الانتقام ليس علاجاً، ولا لعدم القدرة على إعادة الأمور إلى الوراء، بل لأن الوقائع يجب أن تكون قاسية لناحية إعادة ترتيب الأولويات وفق ما يمكن تحقيقه من أهداف. ذلك أن المعضلة الرئيسية التي واجهها تيار المستقبل هي عدم إدراكه الحقيقة السياسية التي يمثلها كونه أحد الأعمدة الثلاثة للتجديد السياسي الذي واجهه لبنان خلال العقدين الأخيرين، وهي الحقيقة التي يجب أن تقوده إلى البحث عن صيغة للتفاعل وليس للتواصل مع الحيويتين المسيحية التي يمثلها تيار العماد ميشال عون والشيعية التي يمثلها حزب الله. وهو تفاعل كان يجب أن يقود إلى آلية أخرى وشكل آخر من إدارة السلطة، والأخذ في الاعتبار أن لا عون ولا حزب الله كانا جزءاً من المرحلة السابقة. مما يعني التعامل بطريقة مختلفة مع الشراكة التي تتطلب تفاهمات وتنازلات من النوع الذي كان الحريري الأب يجيده، لا من موقع الضعف بل من موقع إدارك الوقائع السياسية. وإذا كان يقال الآن لحزب الله إن القوة لا تكفي لإدارة البلاد، فإن قوة المال والدعم الخارجي لا يسمحان بإدارة مدينة فكيف بإدارة بلاد بأسرها.
أما من الجهة المقابلة، فإن حزب الله يعي، بالحساسية التي يمثلها، وبعقله السياسي والأمني، أنه لا يمكن ترك امبراطورية المستقبل تنهار بهذه الطريقة، وعليه الانتباه إلى أن حلفاءه من السنّة لا يمثّلون القوة القادرة على إدارة الشراكة، بل هم في موقع ضعيف أصلاً، وبالتالي فإن البديل الفعلي من تيار الحريري إن خرج أو أخرج من اللعبة، هو التيار السلفي الذي يتمتع بقاعدة أيديولوجية من النوع الذي يعيش على التعبئة المذهبية، وها هي رسائل تنظيم «القاعدة» أو المجموعات العاملة في فضائه بدأت تظهر عبر المواقع الإلكترونية وتعلن رأيها، وفيه إدانة لفريق الأكثرية باعتباره «قوة موالية لأنظمة الكفر والفساد في المنطقة، وعميلة للولايات المتحدة الأميركية»، لكن فيه إشارة إلى أن حزب الله لا يهاجم «سوى أهل السنّة».
وإذا لم يجرِ حساب هذه النقطة بدقة، ولم يجر العمل على تفعيل منطق التسوية، فإن المشكلة الغارزة في الأرض الآن سوف تطل برأسها، والخوف أن تفعل ذلك من خلال انتحاري يفجر نفسه في حسينية أو خلاف ذلك من المواقع التي تمثل الوسط الشيعي في لبنان.
على أن ذلك كله لا يعفي الأكثرية من الحاجة إلى مراجعة الذات. ولا يمكن الركون إلى التبرير الذي كرره أقطاب من الموالاة بعدم وجود ميليشيات للأكثرية وعدم وجود نية أو رغبة بالقتال. بل على العكس، فإن الخبراء والمعنيين يعرفون أنه ليس لدى هؤلاء القدرة على استخدام القتال. ولذلك راهنوا على دور خاص لقوى الأمن الداخلي من جهة، وعلى موقف للجيش من جهة أخرى. على أن ما حصل أظهر أن كل الدعاية التي قامت خلال السيطرة الإعلامية والنفوذ الوهمي لقوى الموالاة على مؤسسات الدولة المختلفة، ليس له أساس في الواقع. فقوى الأمن لم تكن جاهزة لهذا الدور، وكل ما كان بوسع وسام الحسن أن يقدمه للموالاة هو نصيحة بعدم المغامرة، والتراجع عن خطوات يمكن أن تعتبرها المعارضة استفزازاً يدفع بها إلى مواجهة لن تكون نتائجها في مصلحة السلطة.
وكان لموقف الحسن وقعه وإن المتأخر، بعدما أكثر أشخاص مثل سليم دياب وضباط سابقين من القول إن شباب المستقبل قادرون على حسم الأمور، وإن التهديد بدور إضافي لميليشيات وليد جنبلاط سوف يمنع سقوط العاصمة، وسيطرد جميع عناصر المعارضة من كل بيروت ومن وسطها على وجه التحديد.
يحكى أن نسراً وحماراً قررا السفر بطائرة. جلس الاثنان الواحد خلف الآخر. وفي الأجواء، بادر النسر إلى التحرش بالمضيفة وراح يضايقها، وكلما نهرته زاد في حركاته، فأعجب الحمار بفعلة رفيقه، فبادر هو أيضاً إلى التحرش بمضيفة أخرى. ولم يلبث طاقم الطائرة أن ضاق ذرعاً بهما، ففتح قائد الطائرة بابها وألقى بهما خارجاً.
طار النسر في الأجواء فيما أخذ الحمار يهوي إلى الأرض صارخاً، فاقترب النسر منه وسأله: أليس لديك أجنحة؟
رد الحمار: لا... لماذا تسألني؟
فعلق النسر ضاحكاً: ما دام أنه ليس لديك ما يساعدك على النفاذ بجلدك، فلماذا تحرشت وجنيت على نفسك!؟