عاد الولد إلى اللعب في الشارع. كسا نفسه بزيّ مقاتلي الشوارع. ترك مشاهدة قناة «ديزني» إلى أولاد من عمره، لم يرتقوا بعد إلى مستوى حمل السلاح وإيقاف الناس عند حواجز وهمية في الشكل، ولكن قاتلة في الوقت نفسه. تناسى مجلات «بلاي بوي» وإخفاء الأفلام الإباحية بعيداً عن نظر والديه. اليوم يصبحُ بطلاً في عصابة الشارع
ربى أبو عمّو

حكايات طائفية يخزنها الشارع ويضيفها إلى صفحات لم نشفَ من جروحها بعد فتُصنّف «قديمة». يرفض كثيرون التصديق أن الفتنة حصلت! فراس يرفض ذلك بشدة: «لم تبدأ الطوائف المتخاصمة بقتل بعضها البعض على الهوية». هكذا برّر رأيه. ربما فاتت فراس حكايات الأيام القليلة يرويها ضحاياها، فهو لا يزال يلملم شتات الماضي.
تغيّرت المعادلة اليوم. انحصر التوقيف على الهوية إن صحّت التسمية في أيام التقاتل الماضية بالمذهبين السني والشيعي. لم يصل الأمر إلى درجة القتل، لكن الضرب يحتلّ جزءاً واسعاً من هذه المشاهد ويحفر في النفوس جروحاً عميقة لدى أصحابها يصعب محوها. تسأل الجهة (موالاة أو معارضة) اللبناني عن هويته، فإما أن يتمكن من إكمال طريقه، وإما اجتياز العناصر الفتية المسلحة مضرجاً بالدماء أو بلا سيارة. حواجز أخرى تكتفي بطرح أسئلة استخبارية: «من أين أنت؟ توجّهك؟ تحمل سلاحاً؟ دقائق وأكثر حتى يصدر الأمر بالعبور أو بتنفيذ العقوبة.
حتى البطاقة الصحافية، جواز السفر العابر للقارات والقادرة على إنقاذ حاملها، أصبحت مجازفة قد تودي به إلى التهلكة. وقد يبدو الأمر أكثر تعقيداً، فقد ينجح الصحافي في أن يكون عميلاً مزدوجاً بين الموالاة والمعارضة، جامعاً بين مذهبه وبطاقته الصحافية العدوّة، حتى ليبدو أنه يعيش فصاماً في الشخصية. إنها لعبة الروليت الروسية!
خرج أحمد من مستشفى بيروت، استقلّ سيّارته حتى وصل إلى منطقة السفارة الكويتية. أوقفه حاجز تابع لأحد أحزاب المعارضة. طلبوا هويته، وكان الصيد ثميناً جداً. هو سنيّ المذهب. عاد أدراجه إلى المستشفى ولكن بهيئة مشوّهة. لم تنته القصة، إذ جاء أحد مسؤولي الحزب المعارض ليعتذر منه عما فعله به عناصره. إلا أن ما حصل قد حصل.
مهدي أراد تحطيم الرعب الذي أحاط العاصمة. دافعٌ ما في قرارة نفسه حثّه على الانطلاق من سجن داخلي، والعيش مع يوميات بيروت التقليدية، وأغنيات فيروز. قرّر التوجه خارج المدينة، وحين صار نَفَسُ البلد من لون طائفي مختلف، كان لا بد من العودة إلى الصفحة رقم 1975... الهوية مجدّداً. أنزلوه من السيارة، التي أخذت دور الشهيد عن صاحبها، بعدما أطلقوا عليها الرصاص بغزارة، حتى فقدت هويتها.
فرح تعمل في بيروت. وكعادتها في نهاية الأسبوع، توجهت إلى ضيعتها في النبطية. توقف «الفان» عند وادي الزينة، بعدما بدأ مجموعة من الشباب الموالين رشقه بالحجارة، رافضاً السماح له بالمرور إلا في حال إفراج المعارضة عن طريق المطار. لم يكن من خيار أمام الفان إلا تغيير اتجاهه. إلا أن فرح أصرّت على المتابعة سيراً على الأقدام. بدأ الشباب يكيلون لها وللطائفة الشيعية السباب، طالبين منها الكشف عن هويتها. رفضت. وفي هذه اللحظة، انتقلت إلى رعاية جندي لبناني، الذي تكفّل بتأمين إيصالها إلى البيت.
في أحد شوارع بيروت التي سيطرت عليها المعارضة، أوقف صديق رنا سيارته عند مدخل بيتها. جلس في سيارته ينتظرها لجلب بعض أغراضها. عادت رنا بعد نحو ربع ساعة. إلا أن الطريق أغلقتها في هذه الأثناء مجموعة من الأولاد الذين لم يبلغوا الثامنة من عمرهم. لم يعد بإمكانهم المرور. خاطبت رنا أحد الأولاد بلغته، بما بقي في داخله من طفولة: «أرجوك دعنا نمرّ، إنها المرة الأولى، ولن نكرّر ذلك». وفعلاً مرّا، وضحكا بعدها طويلاً.
رنا مجدداً. طلبت من ابنة خالتها إيصالها إلى البيت. في فردان، أوقفهما حاجز تابع لحركة أمل. بعض الأسئلة، من أين أنتما؟ إلى أين أنتما ذاهبان؟ ماذا يوجد داخل صندوق سيارتك؟ سأفتح الصندوق، هكذا قال لها أحد الشبان. إلا أنه لم يتمكن من فتحه. خاطبته: «تقف على حاجز وأنت عاجز عن فتح صندوق سيارة». ارتفع صوتها رافضة التفتيش، فما كان من مسؤول الحاجز إلا أن اقترب منها، قائلاً لها: «حين تواجهين حواجز أخرى، قولي إنك تعرفين أبو سعيد». وهكذا، بفضل أبو سعيد، اجتازت جميع الحواجز.
ومن أبو سعيد إلى البطاقة الصحافية، رواية أخرى. علي صحافي في تلفزيون المستقبل. أثناء تجوّله في بيروت، صادف مجموعة من الشبان. كان عليه أن يخرج إما هويته، فتشفع له عند المعارضة باعتباره شيعياً، أو يخرج بطاقة المستقبل، فيبتسم له المستقبليون. خاف، تردّد، وأخرج بطاقة المستقبل. إذاً أنت من جماعتنا! تنفّس الصعداء... أما لين فضربت ثلاثة عصافير في وقت واحد، فهي تحمل بطاقة صحافية معارضة، وأخرى محايدة تشبه الجنسية الأميركية، عدا كونها سنّية من أم شيعية... لذا فهي في أمان مطلق. اللهم إلا إذا انبثقت طائفة جديدة لا تعترف بكل هذه البطاقات.
عاد الولد. حمل السلاح. تخيّل نفسه في صورة بطل سيذكره التاريخ، هذا ما أوحته له نفسه. إلا أن علم النفس لا يصنّفه إلا أحد أشرار «ديزني لاند». فلتعد الأغنيات حتى تعود ذكرى الأولاد، ويبدأ اللبنانيون بحفظ الدرس من جديد على وقع الرصاص. وليصنعوا هويات جديدة تليق بالعصر.