strong>أمل الأندريعين الرمانة التي التقصت بها لعنة الحرب، تبدو اليوم مستكينةً بعدما أزالت عنها وصمة العار تلك، أو لنقل تقاسمت هذا الحمل الثقيل مع مناطق أخرى. فخطوط التماس تحوّلت رمالاً متحرّكة ولن تكون عين الرمانة وحدها خزّاناً للذكريات المؤلمة. منذ اندلاع الاشتباكات والمنطقة تنام على نشرات الأخبار وتصحو على المؤتمرات الصحافية. أصوات التغطيات الميدانية المتلفزة تعلو بين الأزقة والشوارع. «طبول الحرب» غطّت على أصوات بائعي الخضار الذين يجوبون الأزقة بعرباتهم المهترئة، وعادت السياسة «بطلةً مطلقةً» في الأحاديث اليومية بين المارة والجيران... مع مراعاة «خبيثة» للانتماء السياسي للسكان بين موالاة ومعارضة. في تلك المنطقة النابضة بشرايين الطبقة الوسطى والفقيرة، لم تعد الأيام على ما كانت عليه. فـ«الشارع العريض» الذي كان يشهد يومياً حركة ازدحام كثيفة، تراه اليوم شبه خالٍ، فيما عناصر الجيش منتشرون على طول الخطّ الفاصل بين الشياح وعين الرمانة، حتى في الشوارع الفرعيّة. الشلل والحذر والترقّب ــــــ عناوين المرحلة ــــــ أرخت بظلالها على تجمّعات الشباب في قلب عين الرمانة. ولم تعد تلك الزمر تطيل سهراتها كما كانت تفعل سابقاً. لكنّ اللافت هذه الأيام بروز شعار جديد رُسم على أحد الجدران وهو عبارة عن صليب أسود كبير كُتب تحته «صليبيون».
على رغم أنّ المسيحيين، معارضةً وموالاة، «يحمدون ربّهم» أنّ الاشتباكات لم تنتقل إلى ساحتهم، إلا أنّ «قواتيي» المنطقة انقسموا بفعل الأحداث إلى معسكرين: الأوّل يرى أنّ «الحكيم» فشل ولم يكن «رجّال» لأنّه لم ينخرط في المعارك على حد قول جورج (19 سنة) الواثق من نفسه «نحن مستعدّون للمعركة، وعنّا رجال بتشرب دم». أما المعسكر الثاني فيرى أنّ المعركة ليست معركته «القصة والحمد لله إسلام بإسلام. وفي النهاية، بطّيخ يكسّر بعضو» كما يقول إيدي (40 سنة).
الاستياء أو اللامبالاة القواتية يقابلها تفاؤل عوني. إذ إنّ «عونيّي» عين الرمانة مرتاحون إلى سير المعارك. فـ«المنتصر في النهاية حليفنا. ونحن مطمئنون جداً إلى أخلاقيات حزب الله».
هذا «الاطمئنان الشكلي» الذي يبديه سكّان عين الرمانة تجاه ما يجري، لم يُترجم حياةً طبيعية على أي حال. فالأهالي يرفضون إرسال أولادهم إلى المدارس ولو كانت في «المنطقة الشرقية». في أحد الشوارع الفرعية، يجلس علي شهيب الذي يملك محلاً لتصليح الدراجات النارية. هو يقطن في عين الرمانة منذ 17 عاماً، ويؤكد أنّ شيئاً لم يحصل على هذا الخطّ. فالكلّ «حبايب». حتّى «شباب القوات» لم يتعرّضوا له، وخصوصاً أن الجيش منتشر في كل مكان. رغم ذلك، لا ينفي علي أنّ الاشتباكات الأخيرة أثّرت في حركة العمل: «نفتح المحلّ فقط للتسلية».
أما سوق فرن الشباك الذي تقطع صمته بين الفينة والأخرى آليات للجيش متوجّهة إلى منطقة المتحف، فيبدو أرضاً خلاءً. البائعات يقفن في الخارج يتسلّين بمشهد مغاير يخرق سبات المنطقة والشلل الذي أصابها منذ أسبوع تقريباً. سوق الجعيتاوي في الأشرفية ليست بحال أفضل. الترقّب سيد الموقف، وحدها الصيدليات تشهد حركة وإقبالاً على تخزين الأدوية من المواطنين. رغم ذلك، يقول جوزف بائع السمانة «الناس مش خايفة. الجنرال قال إنّو بارودة حزب الله ما رح تندار صوبنا». إذاً، فعلت تطمينات «الجنرال» فعلها عند عدد من المسيحيين، ولو أنّ أحداً لن «ينام على طريق صيدا القديمة». سائق التاكسي شربل يرفض نقل ركّابه إلى «الغربية» «ولو ملّكوني اياها»... ويصرّ على أن مسلّحي حزب الله «منتشرون هناك في كل مكان». كما يتخوّف من أن يهجموا على عين الرمّانة في الأيام المقبلة. صحيح أنّ شربل مثل كثيرين في المنطقة يفرط قليلاً في مشاهدة قناة محلّية تبالغ في تصوير المشهد على الضفة الأخرى، لكنّ مخاوف الناس، ليست من حزب الله، ولا من اقتتال مسيحي ـــــ مسيحي. «الهاجس الأكبر صار مدّة الحرب. الناس خايفين تطول متل حرب تمّوز ويصير في نقص بالأدوية والأغذية» تقول الصيدلانية بولا.
في شارع الجميزة الذي تنفّس سكانه الصعداء، إذ ينعمون حالياً بـ«هدنة قسريّة» من ضجّة البارات واجتياح السيارات، ودكتاتوريّة الـ«فالي باركينغ»، بدأ بعض البارات يفتح أبوابه أخيراً. بارٌ واحدٌ أصرّ على فتح أبوابه منذ اليوم الأول على الاشتباكات، فاحتشد فيه شبان وصبايا من تلك «البوهيميا» التي تجمع كل الطوائف. لكن لائحة السندويشات والكوكتيلات على اللوح الأسود جرى محوها، واستبدلت بوصفة جديدة على المكان: Please, No Politics.