ابراهيم الأمينلم يكن أحد يتوقع من سعد الحريري كلاماً مختلفاً عما قاله. حتى الأصوات التي ارتفعت من شاشة «المستقبل» بعد عودتها إلى البث، لم تكن لتخالف التوقعات حيال طريقة مخاطبة فريق الأكثرية لجمهورها. لكن ثمة فرقاً كبيراً بين الصراخ الذي يعكس غضباً وقهراً وإحباطاً، والصراخ الذي يفتح الباب أمام المزيد من التوتر والدمار والدماء، لذلك فإن العقل البارد الذي يجب أن يتحكم في من يمسك بالقرار، هو الذي يجيد الفرز السريع والكامل بين الصراخ والوجهة الفعلية للأحداث.
وإذا كان سعد الحريري ملزماً بخطاب لا يكون سقفه منخفضاً عما قاله الرئيس فؤاد السنيورة، فإن ذلك لا يغير وقائع تشير إلى أن هذا الموقف ليس كافياً لإطلاق دينامية جديدة في دم فريق السلطة. فالشارع منهك، والصوت العالي لن يعيد المبادرة إلى من فقدها في غمضة عين، وكل إصرار على هذه اللغة يعني أمراً واحداً: الخشية من أن يتولى القرار من يستطيع استثمار التعبئة المذهبية الحادة القائمة الآن.
ومع ذلك فإن صوت الحريري أمس لم يرتفع فوق صوت الصراخ الذي رافق قتل عناصر الحزب القومي في حلبا، كما ظهر في الصور التي عرضت البارحة المجزرة التي ارتكبها عناصر من المستقبل بحق أبناء بلدتهم في حلبا قبل أيام. حتى الاحتجاج على ما جرى في العاصمة ومناطق أخرى، لن يكون كافياً للتغطية على صور أعمال العنف التي قام بها أنصار المستقبل في طرابلس وعكار والبقاع، حتى إن صحافياً غربياً أصيب بالصدمة عندما طلب من أحد المسؤولين في السلطة شرحاً لهذه الحوادث، فكان جواب الأخير: «من تراهم في الصور هم أنصار المعارضة»!
على أن ذلك كله، لا يغيّر اتجاه الأمور، فالمعلومات التي وردت إلى مراجع في السلطة والمعارضة تؤكد أن قرار كل من النائبين الحريري ووليد جنبلاط هو التعامل بواقعية مع التطورات، والتزام طلب المعارضة التراجع عن القرارين، والاستعداد للذهاب إلى طاولة الحوار. على أن يصار إلى إعادة ترتيب أولويات فريق 14 آذار في ما يتعلق ببنود الحوار، إذ ثمة ميل لدى الفريق المسيحي في السلطة إلى إعادة الاعتبار للبند المتعلق بسلاح المقاومة كموضوع رئيسي على طاولة الحوار، علماً بأن الرئيس بري كان قد أوضح لجنبلاط ولآخرين أن الأمر لن يحصل على هذا النحو، ولا مجال لتعديل بنود الحوار، وإذا كان هناك من يحتاج في الشكل إلى تحريك الموضوع، فإن الثابت هو أن المطلوب من الفريقين الاستعداد لتنازلات تسمح بعقد تسوية تتيح انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتأليف حكومة وحدة وطنية والتفاهم على قانون انتخاب مقبول لدى الغالبية.
وبحسب متابعين للمناقشات في فريق الأكثرية، فإن الأمور تتركز الآن على الآتي:
ــ مراجعة عدد من قوى الموالاة لأوضاعها الداخلية، ولا سيما في تيار المستقبل، وبعض القادة ممن يحرصون على تحميل حزب الله مسؤولية ما حصل، لا يخفون اعتراضهم على الأداء القيادي في التيار والذي بدا قليل الخبرة والحكمة والقدرة على الإدارة الميدانية والسياسية، حتى إن الحريري الابن لم يكتم غيظه من كثيرين كانوا يدّعون أشياء، وتبين أنهم محدودو الشعور بالمسؤولية، وصولاً إلى أن أحد قياديي المستقبل من بيروت الذي لم يعد مرحّباً به في قريطم بعدما بات غير مرحّب به في مناطق وأوساط شعبية من التيار المناصر للنائب الحريري.
ــ مراجعة سياسية عامة من النوع الذي يحاول بداية التخفيف عن النفس بالقول إن المعارضة قادت انقلاباً شاملاً لم يكن هناك قدرة عسكرية لمواجهته، إلا أن البحث الحقيقي يتناول آليات التعامل مع الوقائع السياسية في لبنان، وخصوصاً لناحية ادّعاء القدرة على فرض منطق لا يقبل به الآخرون.
ــ مراجعة للخطوات اللاحقة على قاعدة الحد من الخسائر، وهو المنطق الذي يدعو إليه جنبلاط لجهة القول بأن عدم وضع حد الآن سوف يفتح الغد على تطورات قد تقضي على ما بقي من قوة فريق السلطة، وثمة معطيات ميدانية كثيرة في هذا المجال من النوع الذي يسهل على من يرغب التوصل إلى تسوية أن يتجه إليها ولو مع بعض الصراخ.
ــ مراجعة لا تبدو ظاهرة للعيان في صفوف المعارضة على صعيد البحث عن «جدول اليوم الآتي»، وخصوصاً أن حزب الله الذي يخشى علناً، لا سراً، الآثار المدمرة لجهة الفتنة المذهبية السنية ــــ الشيعية يدرك الحساسية الإضافية التي قامت إثر الحوادث، وهو يأمل أن يكون لديه الوقت والآليات التي تنفّس الاحتقان ولو كان يدرك بأن هناك أزمة تتجاوز الانقطاع عن التواصل لتلامس حدود ابتعاد فريق من اللبنانيين عن خيار المقاومة.
ــ مراجعة من نوع مختلف يقوم بها جانب من المعارضة للخطاب المفترض التزامه في المرحلة المقبلة، وخاصة أن الرؤوس الحامية لم تبرد بعد، وهناك من يريد رفع سقف المواجهة إلى الحدود التي لا تتناسب مع الوقائع. كذلك وجود قادة في المعارضة لم يدركوا بعد أن الخطاب المفترض بعد الذي حصل لا يشبه البتّة الخطاب الذي كان متداولاً من قبل، حتى إنه يمكن القول إن بعض الوجوه يجب أن تغيب عن الشاشة بعد اليوم.
أما في شأن موقف تيار المستقبل، فإنه سيظل رهن المراجعة التي سيقوم بها النائب الحريري وحلقته الضيّقة، وهي مراجعة لا بد أن تتأثر بعوامل عدة، بينها حاجة القواعد إلى من ينهض بها من جديد، وحاجة الحلفاء في الخارج إلى عدم الظهور مظهر الخاسر، وحاجة المصالح السياسية إلى تسويات وتنازلات كما قال الحريري أمس، وإذا لم تحصل المراجعة وفق المنطق الذي يقول بارتكاب التيار وفريق السلطة الأخطاء الكبيرة في المرحلة السابقة، فإن الأمور ستتجه إلى تسويات من النوع الذي يعيش على أحقاد دفينة، وستكون البلاد على موعد مع ما يعيد تظهير الانفجار ولو بعد حين. ورغم أن مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المعارضة ولا سيما حزب الله والرئيس بري والتيار الوطني الحر لناحية الاندفاع الحواري نحو تيار المستقبل، فإن على الفريق الأكثر نفوذاً بين سنّة لبنان أن يجري مقاصّة واقعية، بين الركون إلى توتر يسلّم الطائفة إلى تنظيم القاعدة بكل متفرعاته، أو العمل على احتواء الموقف لأجل المضيّ نحو مصالحة لا بد منها لأجل استمرار
الحياة!