نقولا ناصيفلم يكن متوقعاً أن تكون نبرة رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، في مؤتمره الصحافي البارحة، أقل وطأة وتصلّباً في قراءة أحداث الأيام الأخيرة بدءاً من الجمعة الفائت، في ضوء ما تعرّض له تياره وأنصاره في بيروت. ولم يعكس تشدّده هذا استقواءً بما كان قد أدلى به قبل الظهر وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بمهاجمته حزب الله، ولا سلسلة المواقف الأميركية المتدرّجة من الفتور والبرودة إلى بعض إشارات التحذير. لكن ما بدا متوقعاً تأييد الحريري إلغاء قراري مجلس الوزراء في جلسة 5 أيار الفائت، المتعلقين برئيس جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير وشبكة الاتصالات السلكية لحزب الله. كان رئيس المجلس نبيه بري ينتظر نصف ما أدلى به رئيس تيار المستقبل، إلا أنه لم يبدِ ارتياحه إلى النصف الآخر. خفض الحريري سقف الموقف من إلغاء القرارين، ورفع السقف حيال حوار اشترط له جدول أعمال مغايراً. ردّ فعل برّي مساء أنه غير معني إلا بجدول الأعمال الذي حدّده هو لطاولة الحوار الوطني.
بيد أن موقف الحريري أمس اقترن ببضعة معطيات سابقة لمؤتمره الصحافي أو تزامنت معه:
أولها، معارضته اتخاذ القرارين المتسببين بالعاصفة الأخيرة في مجلس الوزراء في توقيت عدّه غير صائب. لكنه تعرّض لضغوط من حلفائه في قوى 14 آذار. وكان عليه، كما في كل مرة يجد نفسه مرغماً على المفاضلة، أن يختار وحدة قوى 14 آذار وتماسكها على أي قرار سياسي آخر من شأنه تهديد هذا التماسك.
ثانيها، حصول اتفاق بين مسؤولين أمنيين أحدهما قريب من تيار المستقبل والآخر من حزب الله الاثنين الفائت من شقين: تجميد التحرّك المسلح لحزب الله وحلفائه في المناطق اللبنانية في مقابل إلغاء حكومة السنيورة قراريها. وكانت بعض المعلومات التي بلغت إلى معاوني رئيس تيار المستقبل قد تحدّثت عن إمكان ممارسة حزب الله مزيداً من الضغوط على الموالاة لإرغامها على إلغاء القرارين من خلال فتح جبهة عسكرية في الشوف، والدخول إلى المنطقة. وبدا المقصود بذلك استهداف رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط والتضييق عليه، ومحاصرته سبيلاً إلى تقويض حكومة الغالبية.
ثالثها، أن الحريري بواسطة أحد معاونيه أبلغ برّي موافقته على إلغاء القرارين والجلوس إلى طاولة الحوار تبعاً للدعوة التي وجهها رئيس المجلس إلى طاولة الحوار الوطني. وهو بذل وجنبلاط جهوداً لثني السنيورة عن رفضه إلغاء القرارين. وبدا الأخير كأنه يريد أن يخوض وحده معركة رفض إلغائهما مهما يكن الثمن، قبل أن يتراجع عن تصلبه هذا.
رابعها، أن رئيس الحكومة كان في صدد مراجعة احتمال إلغاء القرارين في الأيام الأولى من المواجهة العسكرية في بيروت، قبل أن تباغته مواقف بعض الوزراء الذين تسابقوا إلى الإعلان عن هذا الاحتمال، من غير أن يتركوا لرئيسهم الخيار، وهو كان أول معارضي اتخاذهما في مجلس الوزراء في جلسة 5 أيار، وكان قد عزا السبب إلى الظروف غير الملائمة. بيد أنه واجه، كالحريري، ضغوط وزراء اللقاء الديموقراطي ووزراء مسيحيين كانوا أكثر حماسة من الأولين في الحضّ على اتخاذهما وتجاهل أهمية ردود الفعل عليهما. ولم يشأ، خلافاً لوجهة نظر هؤلاء الوزراء، اتخاذ القرار بإقالة رئيس جهاز أمن المطار، في حين أن موضوع شبكة الاتصالات السلكية التابعة لحزب الله كان مدرجاً في جدول أعمال الجلسة.
ولعلّ المفارقة أن الوزير أحمد فتفت، الميّال إلى الظهور بمظهر المتصلّب، كان من بين الوزراء الذين نصحوا بتجنّب إقالة العميد شقير في هذا التوقيت تفادياً للوقوع في مشكلة مشابهة للتي خبرها هو عندما كان وزيراً للداخلية بالوكالة واصطدم بالمدير العام للأمن العام اللواء وفيق جزيني، وخسر حينذاك جولة المواجهة معه بسبب عدم مقدرة الحكومة على الدفاع عن قراراتها، فضلاً عن الغطاء السياسي الذي كان لجزيني، وهو نفسه الذي لشقير. وتحت وطأة تهديد غالبية الوزراء بارفضاض عقد الجلسة، اضطر السنيورة لمجاراة موقفهم.
خامسها، لم ينظر الحريري إلى موقف وزير الخارجية السعودي على أنه تشجيع له، ولحلفائه، في الموالاة على التعنّت في المواجهة ورفض التسوية المقترحة بشقيها، إلغاء القرارين والجلوس إلى طاولة الحوار، بل على أنه رسالة قوية وشديدة اللهجة موجّهة إلى سوريا وإيران في وقت واحد لتدخلهما في لبنان، وإحداثهما ما يراه الحريري والغالبية انقلاباً على الشرعية المنبثقة من هذه الغالبية. ولا يعدو هجوم الفيصل على حزب الله إلا في نطاق أنه يعدّه أداة في يد
إيران.
وبحسب ما يشير إليه المحيطون برئيس تيار المستقبل، فإن الرياض تركت له تقدير الموقف الذي يرتئي اتخاذه في مقاربة الوضع الداخلي تبعاً للمعطيات التي تتوافر لديه، بمعزل عن تدهور العلاقات السعودية ـــــ السورية، وإن لا يفترق الحريري في نظرته إلى دمشق ودورها السلبي في لبنان وزعزعة استقراره عن نظرة الرياض إليها. بل يذهب هؤلاء إلى القول إن المملكة أرغمت الحريري، حليفها، أكثر من مرة على الذهاب إلى اتفاقات سياسية مع المعارضة، من غير أن ترغمه مرة على التخلي عن اتفاقات قرّرها هو أو مضى فيها.
سادسها، أن المآخذ والانتقادات التي وجهها السنيورة وجنبلاط والحريري إلى الجيش، ووجدوا أنه لم يضطلع بالدور الذي كانت تنتظره منه الغالبية، وخصوصاً حكومتها التي تفترض أن المؤسسة العسكرية ستدافع عنها بلا تردّد أو حساب سياسي للحؤول دون سقوطها تحت ضغط عسكري في الشارع، أتى بالتزامن مع موقف خطير، هو إقدام 40 ضابطاً سنّياً من رتب مختلفة، من نقيب إلى عميد، على تقديم استقالات خطية فردية إلى قائد الجيش العماد ميشال سليمان احتجاجاً على ما يحصل، ورغبة منهم في الخروج من الجيش كي لا يخرجوا عليه، وقد فاجأتهم أحداث الأيام الأخيرة في بيروت والشمال، فأثارت امتعاضهم. وكان أن رفض سليمان استقالاتهم تلك.