جان عزيزيحلو لأحد أبرز أركان الموالاة من المسيحيين، أن يفسّر سلوك بعض القوى والشخصيات المسيحية، مستعيناً بواقعة علمية من العالم الحيواني. يقول إن ثمّة «مخلوقات» حيوانية صغيرة الحجم نسبياً، تملك صوتاً عالياً جداً وصاخباً، بما يتعدّى حجمها. ويؤكد الركن نفسه أن الأبحاث الزوولوجية والباليونتولوجية، أعطت تفسيراً علمياً قاطعاً لهذه الظاهرة، مفاده أن هذه «المخلوقات» كانت قبل عصور زمنية عدة وسحيقة، ذات حجم جسدي كبير وهائل، غير أن تطورات جينية أصابتها، وجعلتها تتضاءل جسداً وتتحجّم. وإثر ذلك، حافظت على صوتها المرتفع الصاخب، أو حتى اكتسبته بعدها، تعويضاً عن التحجيم الذي أصابها، أو في إطار نوستالجيا جينية إلى ماضيها «الكبير».
رواية الركن المسيحي الموالي، تجلّت بكل دلالاتها إبّان الحوادث الأخيرة. فالصراع الأساسي كان على خط تماس الوجدانين السنّي والشيعي، بين لبنان والمنطقة، كما على جبهة مكوّناتهما الداخلية، بين الحريرية وثنائية حزب الله ـــــ حركة أمل. ومع ذلك، لم يمر يوم من أسبوع هذا الصراع، من دون صخب مسيحي متدخّل على خطه وجبهته، من دون مبرر ولا جدوى، علماً بأن المراقبة الدقيقة لما حصل في بيروت خلال الأيام الماضية، تشير إلى أن قسماً لا يستهان به من أوراق الحضور المسيحي، أي مجموع وجود الجماعة ورسالتها، كان على الطاولة اللبنانية والإقليمية والدولية.
نظرياً على الأقل، فجّر الصراع السنّي ـــــ الشيعي احتمالين: إمّا تحالف رباعي ثانٍ في حال تسويته، وإمّا عراق آخر في حال تفاقمه واستمراره. وفي كلتا الحالتين، ودائماً نظرياً، يصير الحضور المسيحي بين خياري التهميش والإلغاء. والثابت أن أي اصطفاف مسيحي إلى جانب أي من طرفي الصراع، لا يمثّل حلاً ولا مخرجاً، لا لمصلحة الجماعة المسيحية، ولا لمصلحة معالجة الصراع نفسه. بدليل الموقف الدرزي الأكثري طيلة العامين الماضيين، كما الموقف المسيحي الأقلّوي خلال الفترة نفسها. إذ غالباً ما ظهرت أصوات هؤلاء في موقع المزايدة والهروب إلى الأمام، وصولاً حتى المبالغة، تأكيداً للحضور والدور وعلّة الوجود والوظيفة. غالباً ما بدا أصحاب هذه المواقع تجسيداً لحالة ذبابة لافونتين على العربة المتهادية، أو على مؤخرة الخيل المتسابقة، حيث تحتسب الذبابة نفسها مشاركة هي في السباق.
لكن المتطلّع إلى مقاربة أبعد وأشمل إلى الواقع اللبناني، وواقع الحضور المسيحي فيه، قد يجد نفسه مضطراً إلى البدء من مكان آخر. ولمناسبة الذكرى الستين للنكبة الفلسطينية ونشوء الدولة الإسرائيلية، قد يكون المنطلق الأفضل لهذا التفكير، ما تعنيه زيارة جورج بوش إلى المنطقة.
أصلاً، ومنذ ستين عاماً، تمثّلت أزمة لبنان، ومسيحيّيه ضمنه، بمعضلتين اثنتين: نشوء إسرائيل الذي أزّم كل المنطقة، وأزمة الديموقراطية في العالم الإسلامي، والمحيط بإسرائيل تحديداً. بين هاتين القضيتين حشر لبنان التوافقي التعددي والديموقراطي على طريقته وظروفه. وطيلة ستين عاماً، تقلّبت سياسة واشنطن بين منطقين: إمّا منطق الرهان على «التسوية الإسرائيلية» على حساب أزمة الديموقراطية، وهو المنطق الذي استمر منذ الدخول الأميركي إلى المنطقة بعد العدوان الثلاثي سنة 1956 حتى نهاية الألفية الثانية، وإمّا منطق الرهان على «التسوية الديموقراطية الأميركية» للمنطقة، على حساب أزمة فلسطين ونكبتها. وهو المنطق الذي بدأ بعد زلزال 11 أيلول، ولا تزال ذيوله سارية المفعول.
اليوم يأتي بوش إلى المنطقة وسط سقوط المنطقين. سقط منطق تسوية القضية الفلسطينية إسرائيلياً، وسقط منطق تسوية أزمة الديموقراطية الإسلامية أو الشرق أوسطية أميركياً. والسقوطان سيضعان إسرائيل وأميركا في الأعوام القليلة المقبلة أمام تحديات كبرى، سياسياً واقتصادياً، وحتى وجودياً بالنسبة إلى الأولى مباشرة، وإلى الثانية بالواسطة.
فإسرائيل ستجد نفسها مضطرة إلى اختراع وسائل أخرى للتعامل مع القضية الفلسطينية، غير «الحرب القذرة» التي كتبها دايفيد روز، وغير الجدار الفاصل. وأميركا ستجد نفسها مضطرة إلى استنباط صيغ أخرى للتفاعل مع العالم الإسلامي، غير «الدمقرطة» على طريقة العراق، وغير «الاستقرار» على طريقة السعودية.
وسط هذه الصورة، قد تلوح في الأفق فرصة جديدة للبنان، وللمسيحيين فيه، كما لكل جماعاته. فرصة قد تعطي أملاً لإحياء لبنان ـــــ الرسالة، التي أوضحها كارول فوتييلا، وأسقطها كل من استشهد بكلامه، «رسالة الحرية والتعددية للشرق كما للغرب».
هل بين المسيحيين من يفكّر بهذه الفرصة؟ هل بينهم من يعدّ ويستعد لتلك اللحظة؟
... في رواية الركن المسيحي الموالي، أن «المخلوقات» الصغيرة الحجم الصاخبة الصوت، تحوّلت في الزمن المعاصر «مخلوقات» أليفة، غالباً ما نجدها في الصالونات.