strong>حتّى وإن هدأت في بيروت والجبل وطرابلس، لا شيء يؤشر إلى تمدد التهدئة صوب عكار حيث يزداد غليان القوميين جديّة، مقابل تعزيز نفوذ مفتي عكار أسامة الرفاعي ــ الأب الروحي الجديد لتيار المستقبل في المنطقة، والمؤمن بحتميّة قتال «المغول الآتين من بلاد العجم» و«أهل الزوابع والصلبان المعقوفة»، في ظل عجز مسؤولي المستقبل عن أي حراك إيجابي يرمّم ما حصل، ويحمي المستقبل من ارتدادات السبت الدموي.
غسان سعود
لم تستطع التهدئة المتنقِّلة بين المناطق اللبنانيّة أن تخرق القلق الذي يتحكم في مفاصل الحياة العكّاريّة منذ السبت الماضي، مع انفتاح المنطقة على مخاوف جدّية من أن يدفع رد فعل الحزب القومي على المجزرة التي ارتكبها بحق شبابه أنصار تيار المستقبل وبعض سلفيي المنطقة صوب «انتقام من الانتقام» يدخل المنطقة في حرب «سنيّة ــــ مسيحيّة» بحكم الوجود القوي للمعارضة في البلدات المسيحيّة، بعدما نجح أهل عكار في تحييد منطقتهم عن حروب الـ75 المذهبيّة، رغم بعض المجازر التي ارتكبت بحق المسيحيين في بلدات عكاريّة عديدة.
وفي انتظار ردِّ القومي، الآتي لا محالة بحسب القوميين، يبدو الهمّ موزعاً على الجميع دون استثناء.
بداية، هناك تيار المستقبل. فهذا التيّار الذي شهد تضخّماً استثنائياً منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري، كان يعيش منذ بضعة أشهر تضعضعاً كبيراً في الشمال على خلفيّة توزيع المناصب والمغانم. ومع سقوط هيبته في بيروت، كانت حاله في عكار من حاله في كلِّ المناطق الأخرى، سواء ما يتعلق بتشتّت القيادة أو بانقطاع التواصل بين القواعد، وتحوّل كل مسؤول بلدة إلى قائد ميداني يبادر بنفسه إلى وضع الخطط الهجوميّة والدفاعيّة دون تنسيق مع أحد. وسرعان ما تأكّدت قيادة المستقبل في عكار، ظهر السبت، من انفلات الأمور من يديها، وخروج السلفيين من رحم أنقاضها. وعبثاً، حاول بعض نواب المستقبل استعادة المبادرة، قبل أن ييأسوا من محاولة لجم المعتدين على الحزب القومي، ويسلّموا أمرهم لتبلور معالم مرحلة حسن نصر الله الجديدة.
أما البلدات المسيحيّة، فتعيش بدورها ترقّباً وعجزاً عن المبادرة شبيهين بترقّب تيار المستقبل وعجزه، فتنقسم البلدات المسيحيّة بين من بدأ، منذ ليلة السبت، الحراسة العلنيّة تحسبّاً لأي اعتداء أو اقتحام «سنّي» يمكن حصوله، ومن سلّم أمره إلى الجيش، وتمركز في منزله لصدِّ أي اعتداء. ورغم محاولة بعض القواتيين استغلال الظرف للظهور مظهر حماة المسيحيين، فإن العقلاء وسط هؤلاء عدلوا بعدما تيقّنوا من أن الكلمة في أيّة غزوة محتملة هي للسلفيين لا للحريريين، لتتكامل بذلك حالة القلق في هذه البلدات.
ويقول المتابعون إن مسيحيي عكار وقيادة تيار المستقبل سيكونون ضحيّة صراع مفتي عكار أسامة الرفاعي والنائب السابق خالد ضاهر من جهة، والحزب القومي وعشائر وادي خالد من جهة أخرى. ذلك أن الفريقين يتخوّفان من أن يكون رد فعل أنصار الرفاعي وضاهر على رد فعل القومي هو اجتياح البلدات المسيحيّة حيث يوجد القوميون بكثافةتهديد القوميين بألا تمرَّ مجزرة المستقبل بحق الشباب مرور الكرام، واضح. وهو تهديد يردده كل منتسب إلى الحزب الأعرق في عكار. وتشير أصابع اتهام القوميين إلى أربعة مشتبه فيهم «يفترض أن يطالهم القصاص». أول هؤلاء، تقول الرواية القوميّة، هو مفتي عكار أسامة الرفاعي الذي حرّض على المعارضة في خطبة الجمعة قبل يوم من المجزرة بمذهبيّة سلفيّة تكفيريّة لم تألفها عكار، وقد دعا إلى الاعتصام تضامناً مع بيروت في ساحة حلبا.
لاحقاً، تتابع الرواية القومية، برز دور ثاني المشتبه فيهم وهو النائب السابق خالد ضاهر الذي قاد مجموعة من 8 سيارات جيب نسّقت الهجوم. ثالثاً، تقول رواية القوميين في عكار، يأتي دور الجيش الذي لم ينجد القوميين رغم توافر الفرصة أكثر من مرّة (هاجم أنصار المفتي المكتب عند الساعة 11 ثم 11،45 ثم حصل الهجوم الكبير عند الثالثة ظهراً)، ورغم قيام هؤلاء باتصالات كثيرة مع مسؤولي الجيش في المنطقة. ويطرح القوميون أسئلة عدة عمّا حصل في اللحظات التي سبقت المجزرة حين اعتقد هؤلاء أن الجيش، بناءً على المفاوضات، سيدخل إلى المركز، وإذا بهم يفاجأون بدخول مليشياويي المستقبل الذين جمعت خلال اليومين الماضيين التفاصيل عن هوياتهم وأماكن سكنهم وارتباطاتهم السياسية بصفتهم المشتبه فيه الرابع. وكان هؤلاء، كما أظهرت الصور التي عرضتها وسائل الإعلام ويجري تناقلها عبر الهواتف الخلويّة، قد عمدوا إلى إطلاق مئات الرصاصات على جثث القوميين، وضربوا رؤوسهم بحجارة كبيرة، قبل أن يبدأوا بركل الجثث والتمثيل بها، إضافة إلى شتم أصحابها وتوعّد أقربائهم. مع العلم أن دور «أنصار المفتي» هؤلاء، ثانوي جداً، بحسب القومي، مقارنة بدور تيار المستقبل «الذي يتحمل المسؤولية الأساسيّة». ولم يسبق لهذا الحزب أن تعرّض لمجزرة مماثلة في الحجم لمجزرة حلبا على مدى تاريخه.
ويشارك القومي في السعي وراء الثأر عشائر وادي خالد المجمعين على ضرورة تسليم من أعدم ومثّل بجثث أربعة من أبنائهم. وقد اعتاد هؤلاء «رد الصاع صاعين»، الأمر الذي يعزّز تخوّف القائلين إن ردَّ هؤلاء سيكون أقسى من ردِّ الحزب القومي.
ومن جهته، لا تبدو مواقف المفتي الرفاعي أفضل حالاً. فهو بحسب المتابعين «فتح على حسابه أو على حساب غيره من التنظيمات الدوليّة» بعدما قال رئيس كتلة نواب المستقبل في عكار مصطفى هاشم غداة تكليف الرفاعي مفتياً لعكار إن مهمة الأخير «ضبط المساجد والإشراف عليها وتوجيه خطبائها، وخصوصاً بعدما ظهر من يفتح على حسابه». وقد سارع الرفاعي إلى عقد اجتماع أول من أمس في حضور الهاشم والنائب السابق خالد ضاهر لقطع الطريق على من يحاول التمييز بين «سلفيّة ضاهر» و«علمانيّة تيار المستقبل»، وللقول إن العلاقة بين ضاهر والهاشم (الاثنان من بلدة ببنين) على أفضل ما يرام (عكس ما أوحاه المستقبليون لتبرئة أنفسهم). ولا يبدي المفتي، بحسب معارفه، أي لين أو استعداد للاعتذار من القوميين، علماً بأنه كان قادراً على لجم المعتدين على القومي، «لكنه ترك الأمور تأخذ مجراها»، وسط كلام يقال في بلدة المفتي عن التزام الأخير «حماية أهل السنّة من كل خرق محتمل»، وتعهّده «تنظيف عكار بداية، وجوارها لاحقاً، من كل ما يعوق إعلانها إمارة مستقبليّة، في ظلِّ فهمه الخاص لدور تيار المستقبل».
ويعدّ الرفاعي أول من جاهر باستفزاز الحساسيّة السنّية ــــ الشيعية، فشبّه في 4 كانون الأول 2006 حصار المعتصمين أمام السرايا الحكوميّة بـ«حصار المشركين لبني طالب وهاشم في مكّة. وأتذكر مع هذه الغوغاء الهاجمة تدفق الموجات البشريّة المغوليّة التي أتتنا من بلاد العجم». وسرعان ما وسّع في الخطاب نفسه دائرة استهدافه باتجاه القوميين والقواتيين قائلاً: «نحن الذين حافظوا على الوطن عندما كانت زوابعهم تقتل أبناءنا وترسم الصليب المعقوف على صدورهم. لا ننسى تاريخهم ولا تصرفاتهم». وبعد ثلاثة أيام، حذّر الرفاعي السنيورة من أن يخلع «قميصاً ألبسك إياه الله»، شارحاً بعد أيام «كيف حاصر السلف من غير أهل الطريقة السويّة الخليفة الحق عثمان بن عفان، وهو الإمام الحق، ليقول له القائل: يا عثمان إن قمّصك الله قميصاً فأرادوك على خلعه، فلا تخلعه، حتى لا يكون خلع قميص الخلافة وقميص الولاية والمسؤوليّة سنّة بعد ذلك، فيتلاعب الرعاع بالخليفة ساعة يشاؤون»، ومختتماً تصريحاته في تلك المرحلة بدعوة أهل السنّة «للجهوز للدفاع عن بيروت في وجه المغوليّة الجديدة».
أمام هذا الواقع المحكوم بحزب وعشائر تحترف الثأر، وبتيار عاجز فقد سيطرته العلمانيّة المدنيّة لمصلحة سيطرة تظلّلها عباءة مفتي يحقد على «المغول الآتين من بلاد العجم»، ولا ينسى كيف كانت «الزوابع تقتل أبناء السنّة والصلبان المعقوفة تحفر في صدور السنّة»، تبدو منطقة عكار مندفعة صوب مرحلة جديدة، تخشى الأحزاب العلمانيّة من الاحتراق بنارها، كما يخشى المسيحيون من اجتياح لبلداتهم أو تحويلهم إلى «أهل ذمّة» يضطرون إلى إخفاء قناعاتهم السياسيّة كما هو حاصل اليوم في معظم بلداتهم، مع الأخذ في الاعتبار أن أحد الأسباب الرئيسية لذهاب الأمور صوب احتمالات كهذه، هو غياب القيادة. فاليوم، لا يعرف العكاريون أين يلتجئون أو إلى من يطمئنون في غدهم. إذ يبدو واضحاً في كلام مسؤوليهم جميعاً، العجز عن تقديم مبادرة. كلّهم يهدّئون فيما الأمور تتجه مسرعة إلى مكان آخر، مكان تصبح فيه العودة، بحكم الطائفيّة والعائليّة والعشائريّة، فضلاً عن الطوابير الخامسة، صعبة جداً إلى العلاقة المتماسكة والهدوء الذي كان سائداً قبل مجزرة 10 أيار.