في بلدة عيتات الجبليّة كان للمواجهات العسكريّة معناها في الحفاظ على الخصوصيّة الدرزيّة وأسهمت في نكء جروح قديمة وإبراز العصبيّات المذهبيّة
نسرين زهر الدين

الزمان: عصر الأحد 11/5/2008.
المكان: قرية عين عنوب القريبة من عاليه.
أصوات رصاص تخرق هدوءها المعهود، يهرول الشبان نحو مركز الحزب الاشتراكي حاملين أسلحتهم الفردية، بينما تتحدث أنباء عن اشتباكات على أطراف القرية عند جارتها عيتات وحيّ المعروفية الذي يفصلها عن الشويفات.
يتنقل شاب في الأحياء حاملاً أخباراً «سعيدة» عن سيطرة «الشباب» على جامع بلدة كيفون الشيعية إلى الأعلى من عيتات، متوعداً من يحاول دخول «منطقتنا» بالندم، بينما تعلو أصوات الأمهات، محاولات إبقاء فتيانهن في المنازل خوفاً عليهم من حماستهم واندفاعهم إلى معركة «ليست معركتنا، فإذا أصاب أولادنا مكروه فلن ينفعنا أحد» على قولهن.
ساعات وتتغير ألوان الوجوه، اشتباكات عنيفة في الشويفات، وحديث عن قتلى. يعلو صراخ صبية على الهاتف أثناء تلقيها مكالمة من جارتها الشيعية السابقة: «تريدين الاطمئنان إلى زوجي؟ إنه في المعركة. الشيعة أتَوا لقتلنا. ماذا تريدون منا بعد ما حصل؟ تريدون اقتلاعنا من منطقتنا؟ لن تستطيعوا ذلك».
ويجول الشبان على البيوت ناصحين أصحابها بإخفاء الأسلحة قائلين: «الشويفات سقطت، والجيش آتٍ لتسلم المنطقة، وقد يفتش المنازل بحثاً عن أسلحة».
الأرض خصبة للشائعات التي تسري كالنار في الهشيم. لم يستطع الدروز استيعاب ما يحصل. الزعيم وليد جنبلاط في انحدار مفاجئ وسريع. تسود حالة غضب شديد حتى توجيه اللوم إلى جنبلاط، فيخاطبه أحد مناصريه قائلاً : «الله يسامحك يا وليد بك، وصلتنا لها المرحلة وبدك منا التراجع والاستسلام قدام هالملتحين؟». فيما يتحدث آخر بفخر عن معركة عيتات: «لقد أوقعنا العديد من الإصابات في صفوفهم. كان هناك مقاتل إيراني بينهم. من يهاجم الدروز فسيدفع الثمن. لا تظنوا أن الجيش آتٍ لحمايتنا. لن يغمض لنا جفن. هؤلاء الغدارون قد يحاولون اللحاق بالجيش والتسلل مجدداً إلينا».
العصبية المذهبية تطغى على جانب كبير من نفوس الدروز. تتحدث أنباء عن شعور بعض عناصر الحزب الديموقراطي اللبناني، وهو أحد أطراف المعارضة، بالغضب، ما دفعهم للقتال إلى جانب عناصر الاشتراكي انطلاقاً من شعار «يجب أن لا ندع قدم الشيعة تطأ مناطق الدروز».
ويتبين للمراقب مدى الاحتقان المذهبي ضد حزب الله والتعامل مع المسألة كصراع وجود في منطقة يصفها الكثيرون بقلعة الدروز، بينما تغلب أجواء من الإحباط وخيبة الأمل بسبب ما حصل في بيروت متهمة «البيروتيين السنة» بالجبن بسبب عدم تمكنهم من الصمود أمام «العدو»، إضافة إلى لوم جنبلاط حين أصدر التعليمات بتسليم المراكز والسلاح، فيما المزاج العام يميل إلى القتال حتى الرمق الأخير.
وتتوالى الأحداث سريعاً، إلى حين قيام جنبلاط بتكليف رجا حرب التنسيق مع الجيش لتسلم مخازن الأسلحة، وهنا يشكك الكثيرون بجدية التسليم حيث الهواجس في ذروتها و«الاحتياط واجب»، لذا تستمر دوريات الحراسة الليلية. ومهما يكن من أمر، فمحاولة فهم الخصوصية الديموغرافية الدرزية تنطلق من مسلمتين:
1 ـــــ الهواجس النفسية التي تتحكم في الأقليات الإثنية أو المذهبية في مجتمع متعدد أو متنوع بشكل عام.
2ـــــ الخوف الدفين الملازم لذاكرة الدروز من تكرار تجربة 1982 عندما دخلت القوات اللبنانية قراهم واستفزتهم إذلالاً وقتالاً. يومها وجد الدروز في وليد جنبلاط القائد الذي دافع عن وجودهم وأرضهم وأعراضهم حين قيل للدروز إن مخطط «القوى الانعزالية» هو تنظيف الجبل من الدروز وطردهم، وزادتهم تصرفات القوات اللبنانية الحمقاء اقتناعاً بهذه الشائعات. بيد أن أصوات بعض العقلاء ممن لا يعميهم التعصب المذهبي تصر على تبديد هذه الهواجس بالتمييز بين القوات في حينها وقوى المعارضة الآن، مبرزة تجربة حزب الله مع الأسرى الإسرائيلين وعملاء جيش لحد ومعاملتهم الأخلاقية لهم عند التحرير عام 2000. والجديد هو توسيع نطاق الهاجس ليشمل الحزب السوري القومي الاجتماعي لجهة وجوده في قرى الجبل، والدرزية منها على وجه الخصوص، فتنطلق قصص مفادها أن «العدو منا وفينا، القوميون الدروز يساعدون الشيعة للسيطرة على الجبل كرهاً بجنبلاط».
لا يبدي الشارع في هذه المنطقة وسط الضياع الحاصل أي قدرة على استيعاب ما حصل وتجاوز الصدمة. قد يحتاج الأمر إلى وقت أطول للاحتواء.