إبراهيم الأمينما يتداوله كثيرون من سنّة لبنان والعرب اليوم إزاء حزب الله ليس أمراً متجاهلاً لدى أقوى تنظيم إسلامي عرفته المنطقة خلال العقود الاخيرة. حتى التعبئة الاضافية التي تعمل عليها الآن مجموعات ترى أنها محقة في التحريض على الحزب ولو مذهبياً، لن تغمض أعين الحزب عن المشهد الشعبي الاكبر في العالم العربي والاسلامي، الذي يتصل بالفضاء الاوسع لحركة الحزب محلياً وإقليمياً، وكل التوتر الذي تعيشه قواعد الحزب نفسه، والنزعة المذهبية الموجودة أيضاً لدى هذا الجمهور، لا تلغي حقيقة أن حزب الله قد يكون الحزب الاسلامي الوحيد الذي تدربّ ويستمر في التدرب على آليات تتيح له أن يتكيّف أيديولوجياً وسياسياً مع الآخرين. وهي رحلة مستمرة منذ ربع قرن، وقد أثمرت مقاومة الحزب للولايات المتحدة أولاً، ثم لإسرائيل، شعبية غير عادية له في جميع الأوساط، وحتى ما قبل حوادث بيروت الاخيرة، فإن السيد حسن نصر الله كان لا يزال الشخصية الاكثر شعبية في العالم العربي. في مصر والمغرب وفلسطين والخليج... حيث الغالبية السنية.
كل ذلك لا يمنع من القول إن الحزب يفكر الآن في طريقة التعامل مع التطورات الأخيرة التي حصلت. لا يمكن أحداً أن يسقط من عقل الحزب أنه حمى نفسه في تجربة بيروت الأخيرة، وأبعاد ما جرى الاقليمية والدولية، قد لا تبدو ظاهرة للعيان أمام الجمهور، لكنها نتائج هائلة وماثلة أمام أنظار الانظمة والحكومات والأجهزة التي تعمل ليل نهار للتخلص من عبء هذه القوة، وهو العبء الناجم فقط عن دور الحزب في المقاومة ضد إسرائيل، وهي مقاومة باتت في العقد الاخير تتجاوز حدود الحركة الاحتجاجية على الاحتلال، لتلامس حدود النموذج القادر على تولي السلطة، بمعزل عن التقييم السلبي أو الايجابي لهذا النموذج. لكن ذعر الانظمة العربية من تأثير حزب الله خارج لبنان، يخص قدرته على تفعيل الاحتجاج القائم في دول المنطقة وتحويله الى حركات تغيير حقيقية، وخصوصاً إذا كان المدخل هو مقاومة إسرائيل.
لذلك، ومنذ التحرير الكبير عام 2000، كان حزب الله يشعر بأن ثمة من يريد أن يجعله يدفع ثمن مقاومته ما يتجاوز حدود ما هو مفترض من عدوه، ولم يمض وقت طويل حتى بدأت ملامح الفتنة السنية ـــــ الشيعية تلوح في الافق. ولم يمر وقت طويل على اجتياح الولايات المتحدة الاميركية للعراق، حتى كانت هذه الفتنة تشتعل، وبرغم كل الكلام الذي قاله حزب الله عن وجوب مقاومة الاجتياح ثم الاحتلال، فإن الحملة عليه لم تتوقف، وهي انتقلت من حملة تتخصص بها الانظمة المتعاملة مع الولايات المتحدة، لتنتقل الى قوى تفترض نفسها في موقع المواجهة عينها، ولم يكن صدفة أن إحدى قواعد التعبئة التي قام عليها تنظيم القاعدة كانت في رفض الشيعة فكراً وحركة وجمهوراً، وكانت كتابات منظري القاعدة وقادتها ومواقفهم ضد حزب الله تتراوح بين التجاهل لصعوبة تناول قوة مقاومة لأميركا وإسرائيل وبين مهاجمتها باعتبارها تقبل بآليات تعايش مع الأنظمة والحكومات من باب أنها قوة تسعى الى فرض وقائع تخص إيران ولا تخص الشيعة العرب.
في المقابل، كان حزب الله ينتقل تدريجاً من مرحلة تجاهل كل الآخرين، من كل الافكار والعقائد، بمن فيهم الحركات الاسلامية السنية، إلى مرحلة التعرف العملي على الآخر وصولاً الى التفاهم وفق قاعدة مقاومة الاحتلال. وهو احتاج الى سنوات طويلة لبناء قاعدة ثقة بينه وبين قوى المقاومة في فلسطين، بالتوازي مع بناء علاقات وطيدة مع مجموعات خرجت من رحم الاخوان المسلمين، لكنه لم ينجح نهائياً في صياغة أي شكل من أشكال العلاقة مع تنظيم القاعدة. وبرغم كل الكلام الاستخباري عن تعاون خفي بين حزب الله والقاعدة، يعرف العالمون ببواطن الامور، كيف رفض حزب الله بعد حرب تموز 2006 فكرة «وحدة الجهاديتين» التي خرج بها من يعتقد أن القاعدة بعد أحداث 11 أيلول، باتت تحتاج الى تغيير نوعي في توجهاتها، مقابل حاجة حزب الله الى إيجاد قواعد مشتركة أوسع من القائمة حالياً مع الحركات السنية المقاومة للمشروع الاميركي. حتى إن حزب الله قال علناً، إنه لا يريد هذا النوع من المقاربة، وذلك ليس لرفضه التعاون مع حركات من أفكار اخرى، بل لأنه يعتقد بأن هذه المرحلة من حياة المنطقة تحتاج الى تركيز أكبر بوجه الخصوم، وتحتاج الى استراتيجيات تنتفي فيها الافكار الرافضة للآخر. وكان على حزب الله المضي نحو تفاهمات ذات بعد محلي من النوع الذي يوفر له الغطاء المطلوب، وربما لهذه الأسباب وجد السيد حسن نصر الله مساحة للتفاهم مع الرئيس الراحل رفيق الحريري على أمور كثيرة قبل اغتيال الاخير، ثم هو ذهب ولو على مضض الى التفاهم الرباعي الذي قام أصلاً مع تيار «المستقبل» وهو وافق على صياغة تختلف عن أدبياته التقليدية عندما وقّع التفاهم مع التيار الوطني الحر، وهو وجد نفسه قابلاً للاندماج في أطر مع حركات قومية عربية ويسارية ولو كلفه الأمر تنازلات من النوع الذي يصعب على جماعات أيديولوجية القيام به.
وخلال العامين الاخيرين، كان حزب الله يعتقد أنه مستعد للتنازل كثيراً في اللعبة الداخلية مقابل تجنيبه المواجهة المباشرة مع فريق السلطة. وللحقيقة، فهو لم يخشَ يوماً فريق 14 آذار إلا لأنه يتظلل بعباءة السنة في لبنان، ولم يكن يقيم وزناً لكل من يرفع بنفسه فوق أكتاف سعد الحريري وأنصاره، لكن يبدو أن الامر تجاوز حدود اللعبة المحلية، باعتبار أن الحملة المركزة على الحزب جاءت هذه المرة من الخارج، وربما يكون حزب الله وحده في العالم من وحّد بين قيادة المملكة العربية السعودية وتنظيم القاعدة، حتى حصل ما حصل قبل أسبوع.
وبناءً على ذلك، يعرف حزب الله الآن أنه أمام مسؤولية تخص إعادة ترتيب أموره وسط السنة، لا بين سنة لبنان وحدهم، والتفكك الذي برزت ملامحه على تيار «المستقبل» مرشح لأن يتفاعل بقوة وسرعة خلال شهور قليلة، ما يجعل حزب الله أمام سؤال كبير: كيف ومع من سوف يتعامل لاحقاً؟