نقولا ناصيفحجب توصّل الموالاة والمعارضة إلى اتفاق على سلة حلول متكاملة للأزمة الأخيرة برعاية الوفد الوزاري العربي، صورة شريك ثالث لا يقل أهمية عنهما وكان في صلب هذا الاتفاق، هو الجيش. فانتخاب قائده العماد ميشال سليمان رئيساً توافقياً للجمهورية بند رئيسي فيه، وكذلك ترؤسه الجولة الثانية من الحوار الوطني في بيروت، وأيضاً تأكيد دور المؤسسة العسكرية في حفظ الأمن على كل الأراضي اللبنانية بعد سحب المظاهر المسلحة والعصيان فالاعتصام المدني. ومن غير أن يكون الجيش هو الذي وصل، أو سيصل، إلى الحكم ـــــ وليس ثمّة مَن يدعوه إليه ـــــ بات واضحاً دوره الشريك في التسوية، سواء عندما يخلع قائده بزّته ليلبس البذلة رئيساً، وعندما يستعيد المبادرة بالمحافظة على الأمن في ظلّ توازن سياسي جديد يلغي في واقع الأمر التناحر العقيم بين غالبية حاكمة وأقلية محكومة. بل يأتي اتفاق الوفد الوزاري العربي كي يكرّس إخراج الجيش من التجاذب السياسي الذي كان قد شهده منذ آذار 2005 ما بين قوى 14 آذار وقوى 8 آذار، إذ كان كل من الطرفين يريده أداة له هو، وعلى أبواب الاستحقاق الرئاسي الخريف الفائت كان كل منهما يريد قائده أيضاً مرشحه هو دون الآخر.
مغزى ذلك ما سمعه زوار قائد الجيش في الساعات الأخيرة، معلقاً على انتقادات سيقت إلى المؤسسة العسكرية من أركان بارزين في الموالاة، وبعضها استخدم عبارات نافرة، إلى اتهامات عن تردّد الجيش في أداء مهمته إبان فلتان الأيام الأخيرة. قال سليمان لزواره إن الجيش لم يتقاعس، وشرح على خرائط بين يديه الدور الذي اضطلع به الجنود عندما انتشروا في طرق وشرايين أساسية من العاصمة كانت تفصل بين الأحياء للحؤول دون اشتباك طرفي النزاع. ولاحظ سليمان أن طبيعة المواقع التي احتلها المسلحون من الجانبين لم تكن تسمح للجيش بالتحرّك الميداني بسهولة، وكانوا قد استخدموا سطوح البنايات لتبادل إطلاق النار من فوق رؤوس الجنود. في الوقت نفسه كانت الاتصالات الهاتفية تنهال على القيادة طلباً لتدخّل الجيش لحماية بيوت سياسيين وممتلكاتهم أكثر منه لفرض الأمن. وبحسب سليمان كان المسلحون يخرجون من الأحياء لا من الثكن لإطلاق النار، ولم يكن في وسعه تعقبهم وهو يحاول الفصل بينهم. ولما سئل عن دور قوى الأمن الداخلي لم يشأ التعليق.
كانت قيادة هذه قد اتخذت بدورها قراراً قضى بدعوة عناصرها إلى حماية مخافرهم ومراكزهم دون الانخراط في المواجهة والفصل بين المتقاتلين تجنباً لمزيد من الإحراج حيال علاقتها بالموالاة وتعريضها لمزيد من الضغوط والانتقادات.
رمى انتشار الجيش إلى أن يكون إجراءً عسكرياً يستدركه تفاهم سياسي نظراً إلى اعتقاد المؤسسة العسكرية بأن الوفاق شأن سياسي، ولا يسعها أن تكون طرفاً في أزمة تتصل بالوفاق الوطني وبخلاف حاد انقسم من حوله اللبنانيون، أكثر منه أعمال شغب وفوضى. عندئذٍ استعاد فكرة «القصبة» التي خبرها اللواء فؤاد شهاب بين أيار وتموز 1958، إبان الثورة الشعبية حينذاك على الرئيس كميل شمعون، من تجربة المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسي: ينتشر الجيش بين المتقاتلين لمنع اشتباكهم واجتياح أحدهما للآخر أو لمقار السلطة، والفصل بين أحياء طائفية متناحرة.
مذ بلغ إليه أن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة تعتزم اتخاذ قراري إقالة رئيس جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير وشبكة الاتصالات السلكية لحزب الله، جهد قائد الجيش لوقف صدورهما خشية أن يولّدا انفجاراً بين الحكومة وحزب الله، وهو يعرف، بحكم علاقته الوثيقة بالطرفين، مقدار الخلل في توازن القوى في مواجهة كهذه، ستضع الجيش في قلب صراع عسكري وستفتح أبواباً على فتنة مذهبية. أوفد إلى السرايا ضابطاً كبيراً ينبّه إلى خطورتهما ويفضّل الإحجام عنهما. وخلافاً لما درجت عليه الحكومة، ورئيسها خصوصاً، في أوقات سابقة عندما كانت تستمزج سليمان رأيه في شؤون عادية لا تنطوي على آثار مرشّحة للتفاعل كالقرارين الأخيرين، لم تسأله رأيه في ملفين للجيش علاقة مباشرة بهما، لأن شقير كان لا يزال في ملاك الجيش، ولأن شبكة الاتصالات القديمة والمجدّدة ذات تأثير على علاقة الجيش بحزب الله. عاد موفده من السرايا بلا استجابة مع إصرار على إقالة شقير، حاملاً اسم ضابطين شيعيين رشحتهما لخلافة شقير في جهاز أمن المطار، ورغبت عندئذ في الوقوف على رأي العماد سليمان في أحدهما لتعيينه. سأل القائد الضابط أيهما يفضّل، فسمّى أحدهما. سأله مجدّداً أن يجيبه بصراحة هل يجد الاسم البديل أحسن من شقير. ردّ سلباً.
في وقت لاحق جمع القائد أعضاء المجلس العسكري وسألهم، فرداً فرداً، موقفهم من إثارة قضية شقير وكيف تصحّ معالجتها. كانت إجاباتهم نفسها: نزع الكاميرا والقيام بدوريات أمنية والتفاهم مع الجهة المعنية على عدم تكرار الأمر. في خلاصة الحوار طلب منهم قائد الجيش نقل وجهة نظرهم هذه إلى السياسيين الذين هم على صلة بهم. التقت وجهات نظرهم أيضاً على أن أي خطأ محتمل يمكن أن يكون قد ارتكبه شقير يُعدّ تقصيراً إدارياً ليس إلا، يصير إلى التحقيق فيه.
حدث ذلك كله قبل أن يلتئم مجلس الوزراء مساء 5 أيار، طوال الليل، ويتخذ قراريه بإقالة شقير والتهديد بتفكيك شبكة الاتصالات السلكية لحزب الله وملاحقة المسؤولين عنها قضائياً فجر 6 أيار.
في 10 أيار، بعدما انفجرت الأزمة عسكرياً واجتاح الحزب بيروت، كتبت الحكومة إلى قيادة الجيش طالبة الاطلاع على رأيها في القرارين. بعد ساعات، وقبل أن ينقضي اليوم، ردّت القيادة عبر وزير الدفاع الوطني الياس المر على السنيورة تقترح إلغاءهما في الكتاب المقتضب الآتي: «بعد الاطلاع على المبادرة القاضية بوضع قراري مجلس الوزراء المتعلقين بمطار بيروت وشبكة اتصالات حزب الله في عهدة الجيش. ونتيجة للتحقيقات التي أجرتها هذه القيادة، وحفاظاً على المصلحة الوطنية العليا، تقترح إلغاء القرارين المذكورين».
في حديثه أمام زواره، قال سليمان إنه لا أحد من أفرقاء النزاع يستطيع حسم الصراع لمصلحته، مركزاً على أن الحلّ سياسي، ولا يمكن مقاربة أي نزاع أو خلاف سياسي بمعالجة عسكرية. قاده ذلك إلى أن يقول إن مشكلة سلاح المقاومة تحل سياسياً لا عسكرياً. وهو ما انتهى به مساء أمس الاتفاق الذي أعلنه الوفد الوزاري العربي.