strong>ثائر غندوريحاول كلّ فريق تصوير ما جرى في بيروت كأنه انتصار لنهجه السياسي الذي دأب عليه منذ أكثر من عامين. إعلام المعارضة الرسمي يحاول أن يوحي أن الخاسر الوحيد في هذه المواجهة هو المشروع الأميركي ــــ الإسرائيلي، وهذا ما يقوله كوادره خلال حديثهم مع أهالي بيروت. يحاولون إقناعهم بأن من يتحمّل مسؤوليّة الانفجار هو النائب سعد الحريري والمحيطون به، وهم من يجب أن يدفعوا الثمن لا المواطن البيروتي.
على المقلب الآخر، يسعى إعلام الموالاة إلى الإيحاء أن ما جرى هو هجوم موصوف من ميليشيات الشيعة لمدينة السنّة. وينشر كوادر المستقبل بين أهالي بيروت أحاديث من نوع أن الذين هاجموا بيروت إيرانيون كانوا يتحدّثون اللغة الفارسيّة، ولذلك لم يستطع شباب المستقبل الدفاع عن مدينتهم.
لا يُمكن هاتين القراءتين المبالغ فيهما أن تُلغيا حقيقة أن شوارع بيروت ملأى بأناس بلغ بهم الحقد المذهبي أقصاه. أحد أهل المعارضة يقول إن ما جرى كان ضرورياً لسببين: أولهما سياسي بات معروفاً ومفهوماً لدى الجميع، أما ثانيهما فيتعلّق ببسيكولوجيا الطائفة الشيعيّة. ينقل هذا المسؤول عن أناسه كلاماً مفاده: هل يريدون أن يُعيدونا مسّاحي أحذية؟ لهذا السبب كان من الضروري التصرّف، وكان من الضروري أن يقول الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إن حزبه لن يقبل بعد الآن أن يُقتل أهله في الطرقات.
لكن الرجل ذاته، الذي شارك في قيادة معارك بيروت، يعترف بأن المشكلة الأساسيّة للمعارضة في بيروت هي غياب الغطاء السني لها بيروتياً. يُحاول جاهداً أن يحلّ المشاكل التي يواجهها أهالي بيروت عبر بعض رجال الدين والهيئات، لكنّه يعترف بعجز هذه المجموعات عن بلورة صيغة تنظيميّة تستطيع أن تستقطب هذا الجمهور وتُريح أعصابه، «فقبل هذه الأحداث بشهر، سعينا جاهدين لجمع الاتحاد البيروتي ومؤتمر بيروت إلى طاولة واحدة ففشلنا». لكنّ هذا المسؤول يؤكّد أن التواصل مع كوادر تيّار المستقبل الوسطيين ليس مطروحاً حالياً، «وأصلاً هم لن يتواصلوا معنا إلّا إذا جاءهم قرار من قريطم، لأن قياداتهم تعيد تنظيم صفوفها».
يُرجع أحد الشبّان الناشطين في اللقاء البيروتي سبب فشل هذه الأطر إلى كون جميع أعضائها «مشاريع نوّاب يبلغون من العمر عقوداً تتجاوز الستة لأصغرهم»، وبالتالي لا يرى أي أفق لعمل شعبي يقوده هؤلاء. لكن هذا الشاب يجزم بأن الأطر التنظيميّة الواسعة هي الحلّ الوحيد لبلورة مشروع وطني سنّي في بيروت.
في المقابل، تسعى جبهة العمل الإسلامي (التي يترأسها النائب السابق فتحي يكن) إلى التوسّع بيروتيّاً عبر الشيخ عبد الناصر الجبري. ويتحدّث قريبون منها عن نيّة الجبهة البدء بتوزيع حصص غذائيّة على الأهالي. يبتسم الشاب الناشط لهذا الخبر «لأنهم لن يستطيعوا مجاراة آل الحريري في دفع الأموال». لكن نقاشاً مع قريبين من جبهة العمل الإسلامي يوحي أن هؤلاء لا يعترفون بوجود أزمة مذهبيّة، وإن اعترفوا يرمون المشكلة على ظهر النائب الحريري دون أن يكون عندهم أدنى فكرة عن كيفيّة بلورة حلّ لهذه المشكلة.
لكن حزب الاتحاد الاشتراكي، برئاسة الوزير السابق عبد الرحيم مراد، يقرّ بهذا الواقع، ويقول البيروتي هشام طبّارة إن الحزب يسعى إلى التمدّد في الأحياء. فقد افتتح مركزاً له في منطقة عائشة بكّار قبل حوالى العام، وسيفتح مركزاً ثانياً في الطريق الجديدة وسيفعّل مركزه القديم في بربور.
يجلس طبّارة في إحدى غرف مركز عائشة بكّار ليشرح أن حزبه «أخطأ عندما ترك بيروت لآل الحريري، ولذلك يجب العمل سريعاً على تلافي هذا الخطأ». في الغرفة المجاورة يؤمّ أحد الشباب عدداً من «إخوته» في الحزب للصلاة. «هؤلاء الشباب كلّهم من بيروت، ومن هذه الأحياء» يقول طبّارة، قبل أن ينهمك في جولة اتصالات من أجل الاستفسار عن مصير شبان اعتقلتهم حركة أمل أو حزب الله وإطلاقهم. ينتهي من اتصالاته، ليشير إلى المشكلة الحقيقيّة: ضعف التمويل. لكن طبّارة يراهن على نحو «مئة كادر» من الشباب المتعلّم من بيروت الذين تخرّجوا أخيراً من الجامعة اللبنانيّة الدوليّة التي يملكها عبد الرحيم مراد، ليقوموا بـ«إنتاج تغيير ما» في عائلتهم ومناطقهم.
بالقرب من مركز حزب الاتحاد، يجلس أحد الشبان في الطبقة الثالثة من مركز الجماعة الإسلاميّة. إنه ناشط طالبي ويعمل في إحدى مؤسّسات الحريري، ومقيم في الطريق الجديدة. يقول إنه عانى كثيراً في سبيل لجم نفسه والامتناع عن الرد على كلام جيرانه. «حزب الله خسر المقاومة وليس فقط نفسه» يقول هذا الشاب بأسى. ينقل عن بعض أهالي بيروت كلاماً قاسياً مثل أن «هؤلاء لن يواجهوا الإسرائيلي بعد الآن».
يعترف الشاب بأن علاقة الجماعة الإسلامية بحزب الله هي في أسوأ أحوالها. يصب غضبه على تيّار المستقبل «الذي لم يُدافع عن بيروت أصلاً، بل كلّ ما قام به هو التعبئة المذهبيّة»، وعلى حزب الله رغم أنه يقول إن المساس بالمقاومة غير مقبول في المطلق «لكننا لا نستطيع أن ندافع عنها بين جمهورنا اليوم». ويذكر الشاب كيف أن الكثيرين قدّموا طلبات انتساب إلى الجماعة الإسلاميّة، ظانين أنها ستؤمّن لهم السلاح لمقاتلة الشيعة.
يُقسّم أحد الناشطين في تيّار المستقبل جمهور التيّار اليوم ثلاثة: مستفيدين، قد يتركون إذا وجدوا مصالحهم خارجه وقد يبقون فيه إذا وجدوا البقاء مفيداً، ومقتنعين بأن التيّار يُشكّل الحاضنة الأولى للسنّة وهؤلاء لم يستيقظوا بعد من صدمتهم ويحاولون تضخيم صورة «العدو»، والجزء الثالث هم الناقمون حالياً على التيّار لأنه خذلهم ولم يُدافع عن بيروت بعدما أشبعهم وعوداً بأن دقائق قليلة تكفي لتكون شوارع بيروت مليئة بالمسلّحين المستعدّين للدفاع عن «مدينتهم وأهلها»، وهؤلاء يبحثون اليوم عمّن يؤمّن لهم الوسيلة للدفاع عن أنفسهم، وقد تكون التنظيمات السلفيّة الناشطة في الطريق الجديدة المكان المستعدّ لاستقبالهم. كذلك يحقد هؤلاء على النائب وليد جنبلاط الذي يعتبرونه سبباً لاقتحام مناطق السنّة.
ومن يجل في منطقة عائشة بكّار ينتبه إلى «المستفيدين» من تيّار المستقبل. كثيرون ممن كانوا يملأون الشوارع بصور الحريري الأب والابن غيّروا البذلة في يوم واحد. وقف «أبو عمر» المعروف بولائه لآل الحريري، من اليوم الأول في صفوف حركة أمل. ويؤكّد ناشطون في المستقبل أن عدداً من مقاتليهم البيروتيين عادوا إلى قواعدهم الناصريّة (مرابطون واتحاد اشتراكي) والقوميّة عند إطلاق أول رصاصة.
أمّا في الشارع، فينقل شبّان يعدّون أنفسهم قريبين من حزب الله سياسياً، حجم المأساة التي بدأوا يُعانونها. منهم من كان يعرف شاباً ذهب ضحيّة رصاصة طائشة هنا، ومنهم من اقتحم بيته بسبب خطأ في السمع بين الطبقة الثانية والطبقة الثامنة. لا ينسى هذا الرجل كيف حاولت طفلته التي لم تتجاوز السنين العشر تقبيل قدم المسلّح حتى يترك لها والدها سالماً.
يقول أحد هؤلاء الناشطين سياسياً إن الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها هي سحب المسلّحين من الشارع وليس إخفاء السلاح في السيارات أو في المنازل، «لأن هناك شعوراً بالذّل لا يُمكن محوه. أهالينا بدأوا يسردون علينا قصص الثمانينات وممارسات حركة أمل في تلك الحقبة، ومن يظن أن الناس تنسى يكون مخطئاً».